أبحاثاللغة والأدب والنّقد

أدب الجدران، اللّوحات الجداريّة

أدب الجدران، اللّوحات الجداريّة

Graffiti Literature, murals

غيد توفيق الدّهيبي

Ghid Dhaybi

تاريخ الاستلام  20/2/2025                     تاريخ القبول 25/3/2025

لتحميل البحث بصيغة PDF

الملخّص

حاولت الدّراسة لفت النّظر إلى هذا النّوع من الفنّ أو الأدب والتأمّل فيه وإبراز قيمته الفنيّة ونقدها. وأن تثبّت قيمة الكتابات الجداريّة الأدبيّة والتّعبيريّة، وإبعادها عن صفة “الخربشات العبثيّة” غير الهادفة. كما أنّ الهدف من هذه الدّراسة إلقاء الضّوء على الدّوافع وإبراز الأسباب الّتي جعلت الفرد يلجأ إلى هذا الفنّ. وتبيان أسلوبه والأداة المساعدة في إيصال هذا الفنّ والبنيّة الفنيّة والخصائص المعنويّة منه. ونلاحظ أنّ هذا الأدب هو أدب هجين خارج عن المعايير الأدبيّة التّقليديّة الموضوعة، متحرّر من قوانينها وقواعدها. كما أنّ هذا النّوع من الفنون قد اتّسم بسريّة الكاتب الّذي يعاني من التّهميش والكبت فيلجأ لهذا النّوع من الفنّ ليبثّ أفكاره وهواجسه ورؤاه الشّخصيّة بشكل جديّ أو هزليّ، ويبقى مجهولًا في أغلب الأحيان، خوفًا من القمع الّذي تمارسه السّلطة عليه، وهربًا من العقاب. وقد اشتمل هذا الأدب على عدّة أنواع كالسّياسة والحبّ والحياة والثّورة والأمل والرّياضة والعنف والفكاهة وغيرها من المواضيع الّتي تهمّ الفرد.

Abstract

The study attempts to draw attention to this type of art or literature, reflect on it, highlight its artistic value, and analyze it. It also aims to demonstrate the value of literary and expressive graffiti, distancing it from the label of “absurd scribbles” that are aimless. This study aims to shed light on the motivations and reasons that drive individuals to resort to this art form. It also aims to clarify its style, the tools used to convey it, its artistic structure, and its moral characteristics. We note that this literature is a hybrid form of literature that departs from established traditional literary standards, free from the laws and rules that govern it. Furthermore, this type of art is characterized by the secrecy of the writer, who suffers from marginalization and repression and resorts to this type of art to express his thoughts, concerns, and personal visions, whether seriously or humorously. He often remains anonymous, fearing repression by the authorities and escaping punishment. This literature includes many genres, such as politics, love, life, revolution, hope, sports, violence, humor, and other topics of interest to the individual.

مقدمة

إنّ الكتابة هي سلوك بشريّ شأنه شأن أيّ سلوك آخر. منها ما هو بدائيّ ومنها ما هو منظّم يتبع قوانين وقواعد معيّنة. وكما أنّ الفنون حديثًا أعطت مكانة وقيمة لخربشات اليدّ وحسبتها نوعًا من الفنون الّتي تحمل في طيّاتها قيمة فنيّة ونفسيّة، فكان لا بدّ من الالتفات إلى الكتابات الجداريّة الّتي كثر انتشارها في كلّ مكان. والنّظر إلى قيمتها الفنيّة التّعبيريّة.

إنّ الانسان بطبعه لا يخطّ كلمة إلّا بدوافع معيّنة. فإذا ما تمتّع بذائقة فنيّة أدبيّة مكنّه ذلك من كتابة نصوص تعبيريّة. وإذا ما وجد ما يمنعه من الكتابة والتّدوين بالأساليب التّقليديّة، أكان على ورق أو من خلال المواقع الالكترونية، وكان هناك ما يعيق هذا التّعبير والافصاح عن ما يخالجه وما يشعر به، ابتدع طرقًا ووسائل خاصّة به لتحقيق هذا التّعبير.

ظهرت الجداريّات أو الكتابة الحائطيّة كوسيلة لتوثيق وتقديم معلومات هامّة من إنتاج الإنسان، تعكس معتقداته وأفكاره وطقوسه ومواقفه. وتُعتبر شهادة على حضارات سابقة لم يكن لديها وسيلة للتّعبير سوى الجدران والرّسوم.

اتّسمت هذه الجداريّات بسهولتها وعدم خضوعها للبروتوكلات والرّقابة المفروضة. إذ تعدّ هذه الجداريّات بديل الصّوت والرّأي في عالم مليء بالقيود، هدفها التّمرّد والتّنفيس عن الاختلاجات، والتّوجيه العام والاعلام، والتّواصل بين الأفراد في المجتمع وحشد أصواتهم ومواقفهم. كما كانت أيضًا نقطة تحوّل مع مجال والإعلان الحديث، في اعتمادها على الدّال الأيقونيّ واللّغة المكتوبة، لإغراء النّاظرين. فهي لافتة للنّظر، وتعلق سريعًا في الأذهان.

ويمكن رصد هذه الظّاهرة في كلّ مكان تقريبًا، إذ لا يمكن أن نخفي تأثيرها على المنشآت العمرانيّة والمؤسّسات والمرافق العموميّة، على جدران المدن والأحياء، على جدران المدارس والجامعات والمقابر ودور العبادة.
لا مكان يسلم من هذه الظاهرة الّتي تتحرّر من قيد المراقبة. وهي في مواضيعها تطرح كلّ القضايا الّتي تهمّ الإنسان من حبّ وكره وعنف وثورة وسياسة ورياضة وموسيقى وغيرها من مكبوتات ممنوعة ومحظورة، كالعلاقات العاطفيّة والمكبوتات الجنسيّة خاصّة عند الشّباب.

لم تعد الكتابات الجداريّة بمعزل عن وجود الإنسان بل كانت تتكيّف مع وجوده، داخل فضاءات من العفويّة والتّلقائيّة. و “التصوير الشّعبي عبّر عن تاريخ الأمّة بمَا لها من تقاليد وعادات وتعبير عن روح الجماعة الّتي أفرزتها الثّقافة؛ وقد كان له بعد وظيفيّ ذو غاية جماليّة. بقصد تزيين البيوت والمحلّات والجسد، إمّا سحريّ بقصد طرد الأرواح الشّريرة، وإمّا دينيّ حول السِّيَر الشّعبيّة والدّين والتّاريخ والزخرفة”. (قانصوه، 1995، صفحة 13).

أدّت هذه الجداريّات بعدًا إيديولوجيًّا وقد بقيت موضوعات الجداريّات واللّافتات في المجتمعات العربيّة،
أفقًا معرفيًّا خصبًا وفسيحًا، يعانق اللّغة ويتجاوز حدودها. و”في العصر الحديث أصبحت الجداريّات من أهمّ رسائل الاتّصال الجماهيريّ لوجودها في أماكن عامة، لا يحتاج إلى مختصّين في الفنّ التّشكيليّ أو لمعارض فنيّة، إذ تعدّ أداة مؤثرّة في تحقيق أهداف سياسيّة أو اجتماعيّة وغيرها، وفي الوقت نفسه أداة تجميل للمدن والسّاحات والحوائط في الأماكن العامّة والخاصّة أو وسيلة دعائيّة ناجحة”. (الغامدي، 2013، صفحة 117).

وهذا ما عمل هذا البحث على دراسته ومناقشته مستعينة بالمنهج التّكامليّ، الذي يشتمل المنهج النّفسيّ لمعرفة الدّوافع وراء هذه الممارسات، والمنهج الاجتماعيّ لدراسة الموضوعات والمضامين، والمنهج البنيويّ الّذي يساعد في دراسة شكل النّصّ وبنيته والأسلوب الذي يميّزه. كلّ ذلك في محاولة للإجابة عن الأسئلة الأساسيّة:

– ما هي أهمّ المواضيع التي تسطّر على الجدران؟

– ما الدّوافع  الفرديّة والاجتماعيّة للكتابة على الجدران؟

– أدب الجدران بين القبول والرّفض. هل يمكن أن يصبح فنًّا معترفًا به؟

أوّلًا: الكتابات الجداريّة

1- تعريفها

إنّ أغلب الظّواهر ممتدّة ولها جذور تاريخيّة تعود للعصور الأولى في الحياة البشريّة ومن هذه الظّواهر، ظاهرة الكتابات الجداريّة المتأصّلة في عُمق التّاريخ. إذ يعود مصطلح الكتابات الجداريّة أو الغرافيتي، إلى لفظ غرافيتي Graffiti وهومصطلح لاتيني Graphium، “غير أنّ هذا المفهوم المستحدث  لهذه اللّفظة، قد ظهر في إيطاليا وهو يدلّ على الرّسول والكتابات المخطّطة بالفحم أو المنقوشة على الآثار القديمة، وكذلك على البيانات المعاصرة”. (حسين، 2008).  ويعود تاريخ الكتابات الجداريّة إلى عصور ما قبل التّاريخ. حيث اعتمد عليها الإنسان البدائيّ في حياته اليوميّة وممارساته مستخدمًا سطح الصّخور والجدران كوسيلة للتّعبير عن انفعالاته وما يخالج نفسه، وعن أفكاره ورؤاه بالصّور أو الرّموز .

وقد أكّدت الكشوفات الأثريّة ذلك، “فالنّجوم الثّلاثة المرسومة على جدران كهوف (لاسكو) في فرنسا تعود
إلى ما يقارب 16500عام”. (حسين، 2008).

فظاهرة الكتابة على الجدران موجودة منذ القدم، كالرّومانيّة واليونانيّة والفرعونيّة، حيث عمدوا إلى تسجيل أحداثهم وتاريخهم وعاداتهم وحروبهم ومعتقداتهم على الألواح الخشبيّة. وكان الهدف من ذلك التّوثيق الزّمنيّ  للفترات. و”إنّ أوّل الدّراسات الّتي ظهرت في مجال تحليل هذه الكتابات الجداريّة كانت على يد الباحث اللّغويّ الأمريكيّ “ريد” سنة 1928 حيث أتيحت له الفرصة في دراسة وتحليل مجموعة كبيرة من الكتابات على جدران المراحيض غرب الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا”. (Reisner, 1964, p. 17)

ومع مرور الزّمن وتقدّم الإنسان وتطوّره، تطوّرت العديد من الممارسات البدائيّة إلى فنون تصويريّة معقّدة، مبتعدة عن الأساليب الرّمزيّة البدائيّة. ومع ذلك، استمرّت الكتابات الجداريّة كظاهرة قائمة في العديد من المجتمعات، رغم اختلاف أشكالها وأغراضها عبر العصور والأماكن.

إذن، فالكتابات الجداريّة هي تسجيلات أو نقوش تُنفّذ على الحجارة أو الجدران أو الأبواب أو محطّات الحافلات، وبشكل عام في الأماكن العامّة. والّتي تعبّر عن مواضيع مختلفة كالمطالب السّياسيّة أو تشجيع الأندية الرّياضيّة، أو قد تعبّر عن نوع من الابداع الفنيّ، أو قد تترجم رغبات ومكبوتات نفسيّة معيّنة، أو قد ترمز للعنف.

نشطت الكتابة الجداريّة مؤخرًّا في ستينيّات القرن العشرين في شوارع باريس وعلى جدران جامعاتها إبّان الثّورة 1968 وذلك للتّعبير عن رأي الثّائرين، ونقل أفكار الشّباب في معارض واضحة للنّظام الاجتماعيّ والسّياسيّ، وقد ارتبطت بحركة الهيب هوب Hip Hop، “التي انتشرت في نيويورك وأطلق عليها مصطلح من الطّبقات المحرومة الفقيرة، ثمّ انتقلت إلى واشنطن. وناضلت إلى ثمانينات القرن العشرين حتّى انتشرت انتشارًا واسعًا في معظم العواصم الأوروبيّة”. (المالكي، 2009).

وإذا ما انتقلنا إلى العالم العربيّ، فنرى أنّ هذه الظّاهرة ازدهرت خلال فترة الاحتلال الأجنبيّ، وقد اتخذّت سبيلًا للتّنديد بالمحتلّ والمستعمر، وطالب بالثّورة عليها و المطالبة بطرده من البلاد. وبقيت إلى ما بعد الاستقلال. إلّا أنّها صبغت بألوان جديدة وباتت شخصيّة في بعض الأحيان يعبّر فيها الشّخص عن شعوره وأفكاره الخاصّة.

وفي العصر الحديث، شهدت هذه الظّاهرة تحوّلًا ملحوظًا، حيث أصبحت “الغرافيتي” أو الكتابات الجداريّة الحديثة وسيلة للتّعبير الفرديّ، وأداة لطرح قضايا اجتماعيّة وسياسيّة وتوثيق الأحداث.

في السّنوات الأخيرة، شهدنا تحوّلًا في توجّه “الكاتب على الجدران”، حيث بدأ يستلهم الجوانب الفنيّة الّتي تنمو
في خياله ويعبّر عنها على الجدران، ساعيًا لتحقيق توازن بين الجماليّة والرّسالة الّتي يحملها من خلال جداريّاته. فهو يمزج بين الرّوح الفنيّة والإبداع مع الرّموز والدّلالات الخطابيّة، ليخلق جداريّات تحمل طابعًا رمزيًا ودلاليًا، لا تخلو من الجمال والإبداع الفنيّ. هذا ما منح هذه الممارسة شرعيّة واعترافًا عالميًا، وجعلها تخرج عن نطاق الأنشطة المحظورة.

واليوم، تحتلّ الكتابات الجداريّة مكانة بارزة في السّاحات الثقافيّة والفكريّة، مما يثير جدلًا واسعًا بين الباحثين والمختصّين. هذه الظّاهرة، التي تمتدّ جذورها عميقًا في التّاريخ، لا تزال تلعب دورًا مهمًا في التّعبير عن هويّة المجتمعات ومواقف الأفراد. فبينما يعتبرها البعض شكلًا من أشكال الفنّ الحضاريّ الّذي يعبّر عن حرّيّة التّعبير والتّغيير، يرى آخرون أنّها تلوّث بصريّ وتشويش على المشهد الحضاريّ العامّ.

استمرّت هذه الكتابة على الجدران و”الحوائط”، متماشية مع كلّ التّطوّر الّذي شهده العالم أجمع، بل وطوّعته في ما يخدمها. على سبيل المثال، أتاح مارك زوكربيرغ، مؤسّس تطبيق “فيس بوك”، للنّاس الكتابة على “الحائط الافتراضيّ” الخاصّ بالتّطبيق، ما أتاح لهم التّعبير عن مشاعرهم وأفكارهم تحت أسماء حقيقيّة أو مستعارة.
وتعتبر هذه الظّاهرة من خلال النّظريّات النّفسيّة في الغرافيتي إلى نظريّة التّنفيس الّتي يرى أصحابها
“أنّ الكتّاب الجداريّين يعانون من سوء التّكيّف وإنّهم غير قادرين على التّعبير عن أفكارهم، والّذي يكتب على الجدران في الأغلب لا يعرف لماذا يفعل ذلك، فالغرافيتي حسبهم، وسيلة للتّعبير عن المكبوت ضمن فرضيّة التّنفيس”. (القطري، 2025).

2- دوافعها وأسبابها

يهمنّا في البدء تحديد لفظ الدّوافع، فهو يقصد “ما يحمل على الفعل  من غرائز وميول. فهو وجدانيّ ولا شعوريّ.
أمّا الأسباب فهي ما يؤدّي إلى أمر أو نتيجة. وتشير استعمالات الكلمة إلى علل خارجيّة أيضًا” (عمر، 2008)، وهكذا فالدّوافع داخليّة أمّا الأسباب فخارجيّة.

وهذه الدّوافع كثيرة أهمّها التّعبير عن الذّّات عند الأفراد بشكل عام، أولئك الّذين لا يجدون وسيلة أخرى للتّعبير عن دواخلهم وعمّا يعانون منه من كبت وتهميش. إذ إنّها تكون أكثر حاجة للفرد المهمّش حيث تغدو هذه الكتابة مصدر لتفجير الكبت وإثبات النّفس واندفاعه إلى هذا النّوع من الفنون الّذي وجد فيه أفضل وسيلة للتّعبير عمّا يشعر به وعمّا يعانيه به من كبت وتهميش على كافّة الأصعدة، اجتماعيًا أو سياسيًا أو نفسيًّا أو دينيًّا أو فكريًا.

فيشير عبده خال إلى أنّ “رقعة التّهميش لم تعد تقتصر على فئة بعينها. وعادة ما ترتبط كلمة المهمّشين بالمسحوقين، والطبقة الدنيا في المجتمع. لكنّ المهمّش يتجاوز المفهوم الماديّ، ليشمل كلّ من لا يستطيع التّعبير عن ذاته، سواء أكان عملًا أو حتّى وزيرًا”. (خال، 2022). وبيــّن خــال عندما يتحدّث عن المهمّشين، فإنّه يستكشف الأفكار الّتي تثير قلق المجتمع. فقد اعتاد المجتمع على إسكات الأفكار الإبداعيّة الّتي تنبع من جهات وفئات متنوّعة. لذا، تأتي الرّواية لتفتح المجال وتعدّد الأصوات، ممّا يتيح للجميع التّعبير عن رؤاهم وتطلّعاتهم وأفكارهم.

هذه الصّور الّتي تعكس حالة من التّهميش الاجتماعيّ والكبت يعاني منها الأفراد، فيلجؤون إلى الجدران للتّنفيس عن ما في ذواتهم من مشاعر.إذ تبدو الحاجة للكتابة ملّحة للتّغلّب على الظّروف وإثبات الذّات خاصّة عند الفرد المهمّش. فيقول ” سكوت كونتر Scott Kuttner” أنّ الكتابة “هي الدعوة المقدّسة الّتي تشدّ روحك… هي وسيلة للحياة تنجذب لها، حتّى بذلنا قصارى جهدنا لنبتعد عنها…” (والد، 2019، الصفحات 63-64) ويضيف قائلًا “الكتابة تعني الوجود، فمن لا يكتب، يفشل في إدارة الحياة، وأنت تفشل إذا وقفت عن الكتابة”. (والد، 2019، صفحة 82)

كما أنّ ثمّة دافع مرتبط بالتّعبير عن الذّات وهو التّنفيس عن «القمع المجتمعيّ». وقد سمّاه مصطفى فهمي (1998) “القمع suppression” مفرّقًا بينه وبين “الكبت”. فيقول بأنّ “الكبت هو إنكار الإنسان لنوازعه وكبتها كبتًا ذاتيًا لا واعيًا. لأنّ ضميره لا يقرّها ولا يسمح بها. أمّا قمع الإنسان لنوازعه، فيقوم على ضبط نفسه وحبسها عما تشتهيه، وتندفع إليه في الأمور المحرّمة في نظر الجماعة. وفي هذه الحالة يكون الإنسان على وعي بهذه النّوازع. فيحول بينها وبين أن تظهر للنّاس. وبهذا يكون القمع خضوع النّفس لنواهي المجتمع ومحرّماته”. (فهمي، 1998، صفحة 167) ويصعب التحكّم في النّفس بشكل كامل، سواء كان الكبت ناتجًا عن دوافع داخليّة أو خارجيّة. فالدّوافع والنّوازع تخلق آليّات دفاعيّة للحفاظ على تلك المشاعر، إمّا من خلال التّعبير عنها أو من خلال إيجاد طرق للتّغلّب عليها.

ويمكن عدّ الكتابة بشكل عام، وكتابة الجدران بشكل خاص، إحدى هذه الطّرق للتّعبير. إذ إنّه عادةً لا يكتب الشّخص ليسمع صوته الدّاخليّ، رغم أنّ هذا الدّافع موجود بشكل طبيعيّ، بل ليوصل صوته إلى جمهور معيّن. فكلّ ما يُكتب على الجدران يجب أن يكون مرئيًّا للقرّاء، ما يحقّق رغبة الكاتب في التّواصل.
أو قد يكون هذا النّوع من الكتابة ناتجًا عن العادة والألفة. ورغم أنّنا نعيش في عصر “ما بعد الحداثة” مع تقدّم التّكنولوجيا الرقميّة، فإنّ الكتابة على الجدران ستظلّ وسيلة فعّالة للتّعبير عن المشاعر بجانب الوسائل الرقميّة.
بل راحت الكتابات الجداريّة تغري المنصّات الرّقميّة، وأصبحت الجداريّات خروجًا عن المألوف ما لفت النّظر إليها من جديد وأعادها إلى دائرة الضّوء والاهتمام مجدّدًا وزاد من جمهورها الّذي تعدّى الجغرافية المكانيّة منتشرًا على امتداد الفضاء الرّقميّ غير المحدود.

 

أ- العوامل الاجتماعيّة

السّبب الأهمّ في انتشار هذا النّوع من الفنون إذ أنّ الحديث عن الكتابة الجداريّة يتطلّب  وجود مجتمع وظروف اجتماعيّة معيّنة تسهم في ظهور هذه الظّاهرة، حيث تعكس في النّهاية ثقافة هامشيّة لمجتمع ما وطريقة تفكير أفراده، المعروفة بثقافة الشّارع. كما ويؤكّد علماء الاجتماع أنّ الكتابات الجداريّة تعكس جانبًا من السّيرة الذاتيّة للفرد، حيث يقوم الفرد بترجمة سيرة مجتمعه، ممّا يسهم في رسم ملامح التغيّرات الاجتماعيةّ الّتي تحدث في المدن والقرى والمجتمعات المدنيّة، وكذلك في المجتمعات السّكانيّة حول العالم. وقد أصبحت هذه الظّاهرة موضوعًا للدّراسة الأكاديميّة في المدارس الاجتماعيّة في الولايات المتّحدة، خاصّة في مدرسة نيويورك، حيث ألّف العالم الشّهير “روبرت ريسنر Robert Leshner”  كتابًا حول هذا الموضوع. تعبّر هذه الكتابات عن جوهر المجتمع والواقع المعيش، وعمومًا، ينظر علماء الاجتماع إلى هذه الظّاهرة من زوايا متعدّدة، حيث يؤكّد معظمهم أنّ هذه الكتابات تُمارس من قبل عامّة النّاس، الذين وجدوا في الجدران وسيلة هامّة للاعتراف والتّعبير عن أفكارهم وما يعتمل في نفوسهم من قلق اجتماعيّ.

2- العوامل الثّقافيّة

تُعتبر الكتابات الجداريّة تعبيرًا عن الثّقافة الشعبيّة السّائدة في المجتمع، حيث تعكس الأجواء العامّة لهذه الثّقافة.
وبالتّالي، تعكس هذه الكتابات رؤى المجتمع وتفكيره، بالإضافة إلى القضايا السّائدة فيه. كما تمثّل هذه الصّور وجهات نظر وتحليلات فرديّة للكتّاب المهمّشين، الّذين يعارضون الرّؤية العامّة للمجتمع، ممّا يدفعهم إلى استخدام الجدران كوسيلة للتّعبير عن مشاعرهم المكبوتة. لذا، فإنّ هذه الخربشات ترتبط بنوع الثّقافة السّائدة، إذ تعكس الأفكار والقيم والتّصوّرات الّتي يحملها المجتمع.

3- العوامل النّفسيّة  

يقول عبد الرّحيم العنبي “أنّ هذا شكل من أشكال التّعبير… وهو لجوء يتمّ بغية التّعبير عن التّابوهات، إذ تصعب أحيانًا مناقشة قضايا كالجنس مثلًا، فالكتابة الحائطيّة ترتجم التّعبير عن حقيقة الذّات خاصّة في ما يتعلّق ببعض الحريّات الفرديّة أو بعض الميولات الشّخصيّة”. (الزعواني، 2014). أي الكتابة الجداريّة تترجم كلّ ما يصعب التّعبير عنه من قبل الأفراد.

ثانيًا- ممارسو الغرافيتي

تبيّن السّوسيولوجية الجزائريّة فاطمة أوصديق في بحثها عن الخربشات الحائطيّة في الجزائر أنّ الغالبيّة السّاحقة من المخربشين Les Tagueurs، هم من الذكور، أغلبهم ما بين الثّانويّ الثّالث والجامعة، من طبقات إجتماعيّة متوسّطة الحال، منوّهة على مفهوم الحكومة القديم. الّذي بدأ في التّراجع لديهم نظرًا لأنّ ممارس الكتابة الجداريّة حسبها يعبّر من خلالها في شوارع وأحياء بعيدة عن مقرّ إقامته، وأنّ مستعملي الجدران يحسنون حتّى الفرنسيّة والانجليزيّة”.

وإنّ أغلب التّلاميذ الّذين يمارسون الكتابات الجداريّة يعمدون إلى خدش الذّوق العامّ، والاداب العامّة،بدافع الانتقام وتصفية الحسابات مع رفاق الدّراسة، وأحيانا بحثًا عن الشّهرة، وعادة ما يريد المراهق أن يلفت الانتباه وخاصّة لدى أقرانه، وخير دليل على ذلك ظهور جماعات الرّاب والهيب هوب، الّذي ساعد في ظهور الرّسوم والكتابات الجداريّة، الّتي يطلقون عليها بفنً الغرافيتي حيث تظهر حاليًا إنتشارًا واسعًا في المجتمعات العربيّة وخاصّة المجتمع المغربيّ منها والغريب في الأمر أنّ الخربشات الحائطيّة أحيانا ما تستهوي حتى الكبار -لكن بصيغة مختلفة عن كتابات المراهقين والشّباب- حيث يستخدمونها كوسيلة إرشاديّة و تحذيريّة عندما يتضايقون من تصرّف ما، فتنتشر على جدران المنازل و المحلّات ، عبارات “ممنوع رمي الأوساخ ” أو “ممنوع الوقوف” أو ممنوع الجلوس في درج العمارة ” و أحيانا تكون العبارات غاضبة و مستنكرة مثل عبارة “لا ترمِ الأوساخ يا…” وتكتب بطريقة تفتقد للجماليّة ، وتستخدم أدوات غير مناسبة للكتابة كما وتكتب بخطوط رديئة وفيها الكثير من الأخطاء النّحويّة. (البقاعي، 2004)

 

ثالثًا- الأماكن المهمّة للغرافيتي

هذا الفنّ موجود في العديد من الأماكن العامّة والخاصّة حول العالم. يمكن رؤيته على الجدران، وفي الأحياء، والأنفاق، والجسور، والمؤسّسات العامة، وغيرها من المواقع. هناك علاقة وثيقة بين مواقع الجداريّات والرّسائل الّتي تحملها. وقد بيّنت العديد من الدّراسات والأبحاث العلاقة بين الكتابات العامّة والأماكن الّتي تكتب فيها، فبقدر ما تكون الكتابة عامّة غير متطرّقة للمعاني الممنوعة أي خلوّ الرّسالة من المضامين الجنسيّة، بقدر ما تكون قريبة من الإطار الجغرافيّ للحيّ أو المدينة الّتي يعيش فيها الكاتب، وبقدر احتوائها على المضمون السّابق بقدر ما يبتعد عن الحيّ أو المدينة، على حدّ تعبير روبرت رسنر. فالكُتّاب الجداريّون يختارون الفضاءات المناسبة بدقّة.(المركز الفلسطينيّ للإعلام). ومن بين هذه الأماكن، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

أ- جدران الشّوارع والأحياء: تعكس جوّ المجتمع العامّ، من خلال رسوم عشوائيّة ذات مستوى رديء غير ثقافيّ، تعبّر عن جوّ هذا المجتمع وتعكس واقعه وطموحات أفراده. حيث يستخدم الأفراد هذه الجدران لإيصال رسائل اجتماعيّة ثقافيّة سياسيّة أو حتّى شخصيّة.

 

ب- المراحيض والأحياء: تقول إحدى الجمعيّات الّتي تدعى جمعيّة المراحيض البريطانيّة، “إنّه يمكن معرفة الوجه الحقيقيّ لكلّ بلد من خلال الكتابات الموجودة على جدران المراحيض العموميّة.فهي تعبّر عمّا يختلج في نفوس الكثير من النّاس الّذين يخجلون أو يخافون من قولها خارجًا. فلو تطرّقنا للكتابات الجداريّة الموجودة في البلدان الشّرقيّة فإنّه غالبًا ما تنتشر الكتابات الجداريّة السّياسيّة (المعارضة للحكومة). أمّا المراحيض العامّة العربيّة فتكتب عليها كلمات نابية وهي تعبّر عن نوع من الثّقافة المنتشرة لدى بعض النّاس”. (الجمري، 1999). وكما قلنا سابقًا بأنّ مكان اللّائحة الجداريّة يعكس تمامًا قيمة المكتوب أو المرسوم ويعبّر عن مستواها، هذا من خلال ملاحظتنا بأنّ أغلب المراحيض سواء أكانت داخل المؤسّسات التّعليميّة أو محطّات القطار أو المرافق العموميّة فهي تمتلئ بالعبارات الجنسيّة والرّسومات البذيئة وأرقام الهواتف والعناوين البريديّة الإلكترونيّة وحسابات مواقع التّواصل الاجتماعيّ، حيث “تكشف الحياة المكبوتة والسّريّة في مجتمعاتنا، وكأنّها مساحة حريّة يتخلّص فيها الفرد من رقابة القيم والآخرين، ليعبّر في هذا المكان عن مكبوتاته وهواجسه وأحلامه، كما تكثر فيه الشّتائم؛ وأحيانًا نجد عبارات النّصح والاستنكار التي تدعو إلى ترك هذه الأمور لأنّها غير مفيدة وتصف كتّابها بأبشع الأوصاف”. (قاسم، 2007، صفحة 26).

.

ج- جدران المحلّات والدّكاكين: في الآونة الأخيرة، لاحظنا أنّ العديد من أصحاب المحلّات والدّكاكين بدأوا يتّجهون إلى الفنانين الذين يمارسون هذا النوع من الفن لتزيين واجهات محلاتهم برسوم هزلية ورموز وألوان حيويّة فريدة.

وأصبحت هذه الرسّومات وسيلة للإعلان والتّرويج، كما تساهم في تعزيز هويّة المحلات وانتشارها. من خلال هذه الأعمال الفنيّة، يتمّ جذب انتباه المارّة والزّبائن، ممّا يترك انطباعًا مميّزًا ويزيد من ارتباطهم بالمكان.

 

 

د- المؤسّسات التعليميّة: لم تَفُت هذه المؤسسات ظاهرة الكتابة الجداريّة، حيث عبّر الأفراد المنتمون إليها عن أفكارهم ومشاعرهم تجاه الإدارة والهيئة التّعليميّة، بالإضافة إلى زملائهم في المدرسة والجامعة. وأصبحت الجدران والألواح وسيلة فعّالة لتبادل هذه الأفكار ونشرها بين التّلاميذ، سواء كانت سياسيّة أو تعبيرًا عن رفض بعض المعلّمين والإدارة في بعض الأحيان. كما تضمّنت الكتابات عبارات الحبّ والغزل والشّعر، ولا يمكننا أن نغفل كلمات الأغاني التي تزيّن تلك الجدران والمقاعد. بالإضافة إلى أرقام الهواتف والعناوين الإلكترونيّة.

 

 

ه- الزنازين والسّجون: إنّ الكتابات الجداريّة كان لها فضاءٌ مناسبٌ جدًا في السّجون ومراكز الاعتقال، فقد بثّ السّجناء ما عانوه وما شعروا به في ذلك المكان الّذي يسلب السّجين من كلّ حقوقه، وصولًا إلى سلبه صوته. وتعتبر هذه الظّاهرة، ظاهرة ضاربة في القدم تاريخيًّا. ففي القرن السّادس عشر و”تحديدًا في برج لندن الدّمويّ الّذي استخدم في ذلك الوقت كسجن؛ نقش أحد المشاهير السّجناء “إدموند بول” بأظافره، شاهدة قبره الّتي حملت عبارة “من زرع الشّقاء حصد الفرح” ووضّح ريتشارد في كتابه “الكتابات الحائطيّة”، أنّ كلّ من الزّنازين والقبور والمراحيض، تملك وجوه شبه مدهشة، ففيها يخيّم جوّ مطبوع بالسّريّة… تلك السّريّة الّتي تكاد تكون جنينيّة…” (دناور، 2023).

ولا يمكننا أن نغفل عن الجداريّات الّتي ظهرت خلال تحرير السّجون السّوريّة من المعتقلين، حيث نُقشت على جدران الزّنازين والمهاجع عبارات ورسومات ورموز تعكس معاناة السّجناء. فقد خطّت فيها أحلامهم وأمنياتهم الّتي راودتهم في أثناء مدّة سجنهم، بالإضافة إلى أسماء أولادهم وأحبّائهم. كما احتوت على العديد من الرّسائل الّتي احتضنها الجدار، عسى أن تصل إلى أصحابها في يوم من الأيّام. وكانت هذه العبارات وسيلة وحيدة لتوثيق آلامهم وأفكارهم، ودليلًا على أنّهم مرّوا من هنا يومًا ما. وهذا ما نراه واضحًا في الجداريّات التّالية.

 

رابعًا- موضوعات الكتابة

إنّ الكتابة الجداريّة تكون بشكل عفويّ، غير متكلّف يطغى عليها البساطة بأسلوب يلامس الواقع اليوميّ للأفراد.
وقد تنوّعت الموضوعات الّتي كان الجدران لسانًا لها عبر العصور. واتّسمت بالحرّيّة والطّلاقة. فهي موضوعات لا تتقيّد بقواعد أو نظم. كالحبّ والكره والفقر والغضب والحزن والعنف والشّوق والحكمة والمديح والهجاء…وغيرها من القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة، وكلّ ما يفكّر به الفرد أو يخطر في باله. فيترجم هذه الأحاسيس إلى نصوص يخطّها على الجدران أينما كان ومتى شاء من غير حسيب أو رقيب بشكل مبهم غامض وسرّيّ. وسنذكر عدّة موضوعات على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:

أ- السّياسة

تُعتبر الجداريّات من الموضوعات الأساسيّة والأكثر أهميّة، حيث تمثّل مكانًا آمنًا للتّعبير عن الأفكار والرّؤى السّياسيّة والثّوريّة الّتي كانت مكبوتة بشكل مخيف من قبل السّلطة. تُعدّ هذه الجداريّات وسيلة سريعة لنقل الرّسائل.
وتعدّ السّياسة من أبرز الأسباب التي أدّت إلى ظهور الكتابات الجداريّة. ويمكن أن نردّ ذلك إلى غياب حرّيّة التّعبير السّياسيّ وتقييدها بشكل شديد من قبل السّلطة الحاكمة. “من خلال محدوديّة التّعبير في وسائل التّواصل كالتّلفزيون والصّحف والمواقع الإلكترونيّة، بالإضافة إلى الحدّ من المظاهر الثّوريّة والمظاهرات. لذلك يلجأ هؤلاء المكبوتون إلى الجدران والشّوارع في اللّيل وفي وضح النّهار”. (حسين، 2008)، ليبثّوا أسرارهم.

وفي البلدان العربيّة، تمتد ظاهرة الكتابة الجداريّة إلى عمق التّاريخ. يستخدم الأفراد جدرانهم كوسيلة للتّعبير عن رموزهم ورسائلهم السّياسيّة وأفكارهم الثوريّة، الّتي يُمنعون من مناقشتها علنًا. فقد واجه الفرد في المجتمع العربيّ قمعًا وكبتًا ليس فقط من قبل السّلطة، بل أيضًا من الأهل والمجتمع المحيط به، وذلك خوفًا من حدوث مشاكل أو ردود فعل سلبيّة.

وعندما نتحدّث عن الجداريّات السّياسيّة في العالم العربيّ، لا يمكننا أن نغفل اللّوحة الجداريّة التي أشعلت الثّورة في سوريا عام 2011، “جاييك الدّور يا دكتور” الّتي كتبها مجموعة من الطّلاب المراهقين على جدار المدرسة في درعا، في رسالة تهديد واضحة لبشّار الأسد “الدّكتور”.

 

وحسب الباحث السّوسيولوجيّ عبدالرحيم عبني، فيرى أنّ الكتابات الجداريّة “أحيانًا تعبّر عن مواقف جريئة وصعبة لا تتماشى مع القوانين الجارية، أو أنّها تتجاوز ما يسمّى بالخطوط الحمراء للدّولة ويتمّ التّعامل مع أصحابها على هذا الأساس، ولكن لا ينبغي التّعامل معها قانونيًّا بل على أساس كونها موقفًا علنيًّا يجب الاستماع إليه واحتواء أصحابه”. (الزعواني، 2014).

2- الحبّ والمواضيع الحميميّة

الحبّ من الموضوعات الّتي تأخذ حيّزًا واسعًا في كتابات الجدران. إذ يحضّر للجمال واللّقاء والفراق والشّوق والفرح والأسى… وكلّ ما يرافق تلك العاطفة من مشاعر، ويكتنفها من أحوال. ويُشار إلى أنّ الكتابات الغزليةَ كلّها أو جلّها سطّرها معجبون ذكور، ولعلّ في هذا خضوع للتّقاليد، “على اعتبار أن الرّجل في تقاليد العاطفة العربيّة هو المحبُّ دائمًا، والطّالب دائمًا، والإيجابيّ في العلاقة دائمًا.وتبقى المرأة محبوبة مطلوبة، في موقع الصّدى أو التّلقّي لعواطف محبّها”. (عبدالله، 1980، صفحة 73). فيندر بوح النساء في السّبورات اللّيلية المفتوحة، والتي يجهل الغريب كاتبها، ويتلمس القريب ملامحه.

كثرت هذه المواضيع على الجدران والأبنية ومحطات القطار وغيرها الكثير من الأماكن، وتظهر هذه اللوائح الجدارية بطريقة عفويّة بسيطة، غير متكلفّة، تعكس شعور الفرد تجاه حبيب أو عاشق. وتكون حاجة هنا إلى الاتصال العاطفي والتأكيد على الروابط الشخصيّة التي تتجاوز المكان والزمان، والصورة رقم (1) دليل على ذلك. وتحمل طابعًا من الانسانيّة والحميميّة الّتي يصعب نقلها عبر أيّ وسيلة أخرى. هي تصوّرات حيّة تنبض بالمشاعر والأحاسيس. كما يمكن أن تتضمّن أسماء المحبوبات الّتي تعتبر من التّابوهات في العالم العربيّ، وهذا ما نشاهده في الصّورة رقم (2). ويمكن أن تشمل أيضًا كلامًا نابيًا أو شتيمة أو تعكس تعابير غراميّة تطغى عليها روح الفكاهة الخفيفة، وهذا ما نراه في الصّورة رقم (3و4).

(1)                                (2)                                 (3)

 

3- الأندية الرّّياضية والموسيقيّة

تكثر هذه الجداريّات في الطّرقات والمدارس وفي محطّات القطار لانتشار هذا النّوع من الرّياضة والموسيقى بين العامّة وشغفهم بالأنديّة واللّاعبين والفرق الموسيقيّة والفنّانين، فهي تحتوي على اسم فرق كرة القدم والفرق الموسيقيّة وأسماء يظهر أنّها لمناصرين مستعدّين لفعل أيّ شيء بعيدًا عن قوانين الفنّ والرّياضة وأخلاقيّاتها.

 

سادسًا: اللّوحات الجداريّة بين الرّفض والقبول

مثل أيّ ظاهرة أخرى، ينقسم المجتمع إلى فئات مختلفة: فهناك من يرفضها تمامًا، ومن يتقبّلها، بالإضافة إلى أولئك الذين يتخذون موقفًا محايدًا، حيث يتقبّلونها وفقًا لقوانين وأنظمة معينة. وهذا هو الحال مع الكتابات الجداريّة.

ينطلق الرّافض لهذا النّوع من الفنّ من مبدأ مكافحة محاولات تخريب الممتلكات العامّة والخاصّة من قبل ممارسي الغرافيتي غير المعروفين. فينادون بايقافها ومعاقبة من يقوم بها. فهي تشوّه المنظر العامّ وتلوّثه. بينما يرى البعض الآخر بأنّها نوع من الهوايات وفنّ من الفنون الّذي يطلق عليه الغرافيتي أو فنّ الشّارع، وباتوا ينظّمون معارض خاصّة بهذا النّوع من الفنّ، وأصبحت البلديّات تهتمّ به بالماركة مع الجمعيّات الّتي تعنى بالفنون، فيرون بهذا الفنّ وسيلة لتزيين الطّرقات والجدران في المدن وتضفي رونقًا خاصًا عليها. ويرى البعض الآخر أنّ هذه الظّاهرة نوع من الفنون، لكن يجب تهذيبها وترويضها فيما يخدم المجتمع والأفراد. حيث يقول الإعلاميّ سلطان سعود القاسميّ: “نحن هنا نشجّع الفنّ العربيّ، والكتابة على الجدران، فهي شكل من أشكال الفنّ… نحن لا نتحدّث عن اللّغة البذيئة الّتي تكتب على الجدار، بل على قطعة من الفنّ الحقيقيّ التي تعزّز شعور المجتمع بالفنّ”. (طارق، 2012).

استنادًا إلى ما سبق، يمكن القول إنّ الكتابات الجداريّة تمثّل ظاهرة عالميّة، وقد واجهتها معظم الدّول بالرّفض في بداياتها. ومع ذلك، انفتح الغرب على هذه الظّاهرة من خلال دراستها وتخصيص مساحات واسعة لممارسيها، ممّا ساعد على توجيه طاقاتهم نحو إبراز الجانب الجماليّ لفنّ الغرافيتي. هذا الانفتاح أتاح لهم فرصة التّعبير عن مواهبهم في سياقات اجتماعيّة معينة. في المقابل، لا تزال هذه الظّاهرة في مراحلها الأولى في الدّول العربيّة، بما في ذلك الجزائر، حيث لم تُدرس بشكل جادّ وعلميّ كما هو الحال في الدّول الغربيّة. نتيجة لذلك، تظل الكتابات الجداريّة العربيّة أقل تطوّرًا من حيث التّعبير الفنّي مقارنة بما هو موجود في أمريكا وأوروبا، ممّا يثير جدلًا حول قيمتها الفنيّة. هذا الجدل يزداد حدّة في ظلّ الظّروف الجديدة التي يشهدها العالم العربيّ، حيث يلعب الغرافيتي دورًا في تحفيز ودفع الثّورات العربيّة.

خاتمة

في الختام يتبيّن لنا أنّ ظاهرة الكتابات الجداريّة أو”الغرافيتي” لها أبعاد جديدة ومختلفة عمّا كانت عليه، حيث أصبحت وسيلة بديل سياسيّ يحرّك الرّأي العامّ، ويؤثّر فيه كما هو مبيّن من خلال البلدان الّتي تعيش صراعات سياسيّة، وهي وسيلة للتّعبير عن معاناة الشّباب بدءًا من انعدام حريّة التّعبير إلى البطالة والفقر والتّهميش والحبّ متحرّرًا من كلّ القوانين والقيود الاجتماعيّة والسّياسيّة، إذ تعتبر هذه الجداريّات مرآة لنفسيّة الأفراد على اختلاف مشاربهم، وهذا ما يفسّر اختلاف المواضيع الّتي تطرحها اللّوحات والرّسائل الغامضة والسّريّة الّتي تبثّها. وقد وصلنا إلى عدّة نتائج نذكر منها:

– تعدّ الكتابة من أهمّ طرق التّعبير عن الذّات والبوح بما في النّفس.

– يعدّ الكبت الاجتماعيّ من أهم ما يدفع المبدعين إلى التّخفّي خلف الكتابات الجداريّة.

– يمكن أن يؤدّي التّهميش إلى عجز فئة معيّنة عن رؤية المشهد الإبداعيّ، لكنّه لا يمنعها من ابتكار طرق وأساليب للتّعبير عن وجودها.

– تظهر اللّوحات الجداريّة المنتشرة على الصّفحات الإلكترونيّة أن الظّواهر البدائيّة تمكّنت من جذب المعاصرة نحوها.

– تناولت الكتابات الجداريّة جميع جوانب الحياة وموضوعاتها، حيث شملت ما يتعلّق بالفرد والمجتمع، بالإضافة إلى المؤسّسات والسّياسة والاجتماع والدّين والفنّ.

– عرضت هذه الجداريّات كلّ ما يتعلّق بظروف الحياة وأحوالها ومشكالها ومعاناتها.

– غلبت الفكاهة والسّخرية والتّهكّم على الكثير من اللّوائح الجداريّة ممّا عزّز من مكانتها والاهتمام بها من قبل الأفراد.

– جاءت اللّغة بسيطة عفويّة، دون إبهام، خرجت عن قواعد النّحو والإملاء.

– عُدّت هذه الجداريّات لوحات إعلانيّة جذّابة يصعب تجاهلها.

 

قائمة المراجع

Reisner, R. (1964). Graffiti: Two Thousand Years of Wall Writing. . newyork: newyork cowles book co.

أحمد الزعواني. (2014). على جدران الأبنية والأسوار والمؤسسات العمومية. الكتابة الحائطية عند المغاربة. الهدهد، 10432. تم الاسترداد من الهدهد.

أحمد مختار عمر. (2008). معجم اللّغة العربية المعاصرة. القاهرة: عالم الكتب .

أكرم قانصوه. (1995). التّصوير الشّعبي العربي. الكويت: عالم المعرفة .

القطري, م. (2025). الشباب والكتابة على الجدران. Retrieved from الوسط.

أميرة المالكي. (2009). جرافيتي الحرب والسلام، الكتابة على الجدران. الدبلوماسي، 45.

بدور الغامدي. (2013). الأبعاد الجمالية والتشكيلية لأعمدة الانارة العامة لإثراء الجدارية المعدنية المعاصرة- رسالة ماجستير . الرياض: جامعة أمّ القرى.

جانيس والد. (2019). إذا وقعت في حبّ كاتبه. الكويت: دار الخان للنشر والتوزيع.

حسين صالح قاسم. (2007). الابداع في الفن. عمان: دار مجلة للنشر والتوزيع.

عبده خال. (2022). المهمشون ليسوا دائما فقراء. تم الاسترداد من الامارات اليوم.

فرح البقاعي. (2004). عصابات الغرافيتي. الحوار المتمدن.

فطيم أحمد دناور. (2023). أدب الجدران المعاصر. الشارقة.

محمد حسن عبدالله. (1980). الحب في التراث العربي. القاهرة: عالم المعرفة.

مصطفى فهمي. (1998). الدوافع النفسيّة. القاهرة: مكتبة الأسرة.

منار طارق. (2012). الغرافيتي تخريب أمّ فنّ. الفجر.

منصور الجمري. (1999). جمعية المراحيض البريطانية. الوسط، 17.

مهند حسين. (2008). الكتابة على الجدران ما بين الفن والسياسة. الحوار المتمدن، 2436.

عدد الزوار:22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى