التّشكيلات السّرديّة في الدّراسة التّاريخيّة قراءة في مأزقيّات الهويّة

التّشكيلات السّرديّة في الدّراسة التّاريخيّة قراءة في مأزقيّات الهويّة
كتاب “مسيحيّو الشّرق الأدنى في زمن الإصلاح الكاثوليكيّ”
لبرنار هيبرجيه[1] نموذجًا
Les structures narratives dans l’étude historique Une lecture des apories de l’identité
Le livre “Les chrétiens du Proche-Orient au temps de la réforme catholique“
de Bernard Heyberger comme prototype
شادي القهوجي[2]
Chadi Kahwaji
28 /1/2025 13/2/ 2025
الملخَّص
يتناول هذا البحث العلاقة المعقّدة بين السّرد التّاريخيّ والأدب التّخييليّ، مع التّركيز على دمج الوثائق التّاريخيّة في الخطاب الرّوائيّ. ويستكشف أيضًا كيفيّة استناد الرّوائيّين، عبر تفاعل دقيق مع المصادر الأرشيفيّة، إلى مزج الدقّة التّاريخيّة بالسّرد الإبداعيّ، ممّا يؤدّي إلى إنتاج نصوص تثير تساؤلات حول حدود الحقيقة والخيال. يدعو هذا التّداخل القرّاء إلى تقييم مصداقيّة التّمثيل التّاريخيّ ودور الأدب في تفسير الماضي بشكل نقديّ.
من خلال دراسة حالة لكتاب “مسيحيّو الشّرق الأدنى في زمن الإصلاح الكاثوليكيّ” لبرنار هيبرجيه، يحلّل البحث كيفيّة معالجة السّرد التّاريخيّ المرجعيّ قضايا الهويّة والصّراع الثّقافيّ وديناميكيّات السّلطة. ويُعَدّ عمل هيبرجيه مثالًا غنيًّا يوضّح كيف تعيد السّرديّات التّاريخيّة تشكيل هويّات مسيحيّي الشّرق في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، مع معالجة موضوعات الإصلاح الدّينيّ، والتّفاعلات الثّقافيّة المتبادلة، والتّحوُّلات الاجتماعيّة والسّياسيّة. ويبرز البحث التّصوير المتقن للتّعايش والصّدام بين الجماعات الدّينيَّة والاجتماعيَّة المختلفة، مقدّمًا رؤى حول جدليَّات، مثل الانفتاح والانغلاق، العنف والتّسامح.
علاوةً على ذلك، يبرز البحث الطّبيعة المزدوجة للكتابة التّاريخيَّة بوصفها سردًا وتفسيرًا، ويناقش كيف يستعين الكُتّاب بالوثائق الأرشيفيّة لإضفاء المصداقيّة على أعمالهم، وفي الوقت ذاته ينخرطون في إعادة بناء تخيُّليَّة، ما يُنتج نصوصًا “متعدِّدة الطّبقات” تتجاوز حدود التّأريخ الجامد، وتعكس هذه الطّبيعة المزدوجة التّوتُّر بين التّمثيل الموضوعيّ والتّفسير الذّاتيّ، كاشفةً عن التّاريخ كحوار متطوِّر بين أحداث الماضي وتأمُّلات الحاضر.
وفي النّهاية، يؤكِّد البحث الدّور المحوريّ للأدب التّاريخيّ في سدّ الفجوة بين الذّاكرة والسّرد؛ فهو لا يصوّر التّاريخ مُجرَّد سرد ثابت للأحداث، بل كعمليّة ديناميكيَّة لإعادة التّفسير، تتشكّل بفعل تفاعلات السّرد القصصيّ، والهويّة الثّقافيَّة، والاستقصاء الإبستمولوجيّ؛ ويضع هذا البحث الأدب التّاريخيّ، بطبقاته المختلفة، كأداة حيويّة لفهم تعقيدات التّجربة الإنسانيّة عبر الزّمن.
الكلمات-المفاتيح
السّرد التّاريخيّ – الأدب الرّوائيّ التّخييليّ – الوثائق – الهويّة – الصّراع الثّقافيّ – الإصلاح الكاثوليكيّ – مسيحيّو الشّرق – الذّاكرة.
Résumé
Cette étude explore la relation complexe entre le récit historique et la fiction, mettant en exergue l’intégration des documents historiques dans le discours romanesque. Elle examine, par une interaction minutieuse avec les archives, la méthode par laquelle les romanciers parviennent à mêler précision historique et narration créative, ce qui produit par conséquent des textes qui interrogent les frontières entre vérité et imagination. Cette interaction invite les lecteurs à évaluer de manière critique la crédibilité de la représentation historique et le rôle de la fiction dans l’interprétation du passé.
À travers une étude de cas de l’ouvrage Les chrétiens du Proche-Orient au temps de la Réforme catholique de Bernard Heyberger, le chercheur analyse les questions d’identité, de conflit culturel et de dynamiques de pouvoir abordées dans les récits historiques. L’œuvre de Heyberger constitue un exemple riche qui illustre la reconfiguration des identités des chrétiens d’Orient aux XVIIᵉ et XVIIIᵉ siècles dans les récits historiques, tout en traitant des thèmes de réforme religieuse, d’interactions culturelles et de bouleversements socio-politiques. L’effort du chercheur consiste à mettre en lumière la représentation nuancée de la coexistence et des confrontations entre différents groupes religieux et sociaux, offrant des perspectives sur des dialectiques telles que l’ouverture et le repli, la violence et la tolérance.
En outre, cette recherche met en évidence la dualité de l’écriture historique en tant que récit et interprétation. En effet, les auteurs utilisent les archives pour conférer de la crédibilité à leurs œuvres tout en engageant une reconstruction imaginative, produisant ainsi des textes « feuilletés » qui transcendent les limites de l’historiographie rigide. La dualité récit imaginaire/historique reflète la tension entre la représentation objective et l’interprétation subjective, révélant l’histoire comme un dialogue évolutif entre les événements passés et les réflexions contemporaines.
Enfin, l’étude souligne le rôle essentiel de la fiction historique dans le rapprochement entre mémoire et narration. Loin de se limiter à un simple récit figé des événements, l’histoire y est dépeinte comme un processus dynamique de réinterprétation, façonné par les interactions entre le récit, l’identité culturelle et la quête épistémologique. Cette recherche pose la fiction historique, avec ses multiples dimensions, comme un outil vital pour comprendre les complexités de l’expérience humaine à travers le temps.
Mots Clés
Récit historique – Fiction romanesque – Archives – Identité – Conflit culturel – Réforme catholique – Chrétiens d’Orient – Mémoire
مقدّمة
لم يتوقّف التّاريخ والرّواية يومًا منذ بدايتهما، على الرّغم من انفصالهما، عن أن يكونا مرتبطَين، ذلك أنّ عزلهما عن بعضهما، هو “حدود مضجِرة تأبى الأعمال الأدبيّة نفسها أن تقوم بفرضها”[3]؛ وتشير الرّواية المستندة إلى الوثيقة التّاريخيّة إلى أنّ النّصّ يعمل على مستويات متعدّدة من الخطاب التّاريخيّ؛ فهي تعالج كلًّا من “التّاريخ” بمعناه الكبير، ذلك الذي وصفه بيريك Perec بـالتّاريخ ذي الفأس الكبيرة[4] و”التّاريخ” بمعناه الشّخصيّ، أي الحياة اليوميّة للأفراد الذين يحاولون المحافظة على بقائهم ومعنى وجودهم في خضمّ دوّامة التّاريخ.
وبما أنّ الرّوائيّين لم يعيشوا الحدث التّاريخيّ الذي يتناولونه، فإنّ خبرتهم تستند إلى دراسة مُعمّقة في الوثائق الأرشيفيّة وكتب التّاريخ، التي يُسهبون في الاقتباس منها بوصفها أدلّة لتعزيز سلطتهم السّرديّة، ويتركون لروايتهم نفسها أن تضع عَقدًا غامضًا مع القارئ، وتشجّعه على التّساؤل حول دقّة الرّواية التّاريخيّة المفترضة.
لكن على الرّغم من أنّ الرّوائيّ-الرّاوي يُقدّم نفسه كخبير في المجال التّاريخيّ، يبقى من الصّعب على القارئ تقييم مصداقيّته، بخاصّةٍ أنّ طبيعة العلاقة بين السّرد التّاريخيّ والأدب الرّوائيّ التّخييليّ متشابكة، نظرًا إلى عمق تأثير دمج الوثائق التاريخيّة في الخطاب الرّوائيّ وفضح عوامل تشكيل الهويّة الثّقافيّة والتّاريخيّة، الفرديّة والجماعيّة. فكيف يمكن للقارئ أن يتيقّن من أنّ ما يُروى له قد حدث بالفعل؟ وهل هناك فجوة لا يمكن تجاوزها بين النّوعَين السّرديَّين، الرّوائيّ والتّاريخيّ؟ وإلى أيّ حدّ تتسرّب إلى النّصّ التّاريخيّ العلميّ تشكيلات الفضاء السّرديّ وما يتضمّنه من مظاهر صراعيّة تجسّدت في بينيّات مأزقيّة؟
أوّلًا: الكتابة المتعدّدة الطبقات
يلجأ الرّوائيّ إلى التّاريخ كمصدر للإلهام، سواء لاختيار موضوع الكتابة أم لصقل الأسلوب، مُظهِرًا تذوُّقًا للأرشيف، بحيث نرى نصّه يزخر بالاقتباسات المستمدّة من وثائق تاريخيّة، غير أنّ “لا شيء، في الواقع، يُظهر الفجوة بين نوعَي السّرد أكثر من هذه الملاحظات الوثائقيّة: عندما تظهر في رواية، فإنّها تحدث زلزالًا صغيرًا، كأنّه إطلاق رصاصة خلال حفل موسيقيّ”[5]، ذلك أنّها تُحدث بالفعل انقطاعًا في السّرد التّاريخيّ، ممّا يدفع القارئ إلى التّشكيك، ليس في موثوقيّة المصادر فقط، بل أيضًا في تفسير الراوي لها.
تبدو الاقتباسات من الوثائق التّاريخيّة، ضمن الخطاب الرّوائيّ التّخييليّ، كأنّها محاولة لمحاكاة الأسلوب التّاريخيّ، وهو بحدّ ذاته “خطاب يضمّ داخله، على شكل اقتباسات تُشكّل آثارًا للواقع، الموادّ التي يعتمد عليها والتي يهدف إلى تقديم فهمها”[6]؛ فالكتابة التّاريخيّة «كتابة متعدّدة الطبقات»: «يُطرح الخطاب بصفته تأريخيًّا عندما “يستوعب” الآخر، السجلّ، الأرشيف، الوثيقة، أي عندما يُنظَّم كنصّ متعدّد الطبقات، يعتمد جزء منه (المستمرّ) على الآخر (المبعثر)”[7].
هكذا، تصير الكتابة كآليّة تستخرج من الاقتباس مصداقيّة السّرد وتثبت المعرفة، محاولةً بثّ الموثوقيّة، أو قُلْ، واضعةً القارئ في حالةٍ من التّساؤل النّابع من عدم اليقين. فعندما يكشف الرّوائيّ المراجع والوثائق التي تشكّل الأساس التّاريخيّ للرّواية، تتماهى في ذهن القارئ حدود الحقائق والخيال؛ وبدلًا من قبول النّصّ كمزيج من الوقائع التّاريخيّة والزّخارف المتخيَّلة، يصير الهمّ متمحورًا حول معرفة أجزاء النّصّ المنتمية إلى التّاريخ وتلك التي نسجها الخيال، هذا عدا عن الشّكّ الذي يعزّزه احتمال تحريف الحقائق المبثوثة في تفرُّعات الخطاب التّخييليّ، وبخاصّةٍ أنّ الرّواة يتجاوزون دور المؤرّخ التّقليديّ حين يحضرون في النّصّ من خلال التّعبير عن المشاعر التي تُثيرها الوثائق التاريخيّة في ذواتهم، سواءٌ أكانت شكوكًا، أم افتراضات، أم تأمّلات، ممّا يُعقّد مهمّة القارئ.
من هذه النّاحية، يؤكّد الرّوائيّون، أنّ الوثائق الأرشيفيّة تشكّل، بالنّسبة إليهم، نقطة انطلاق أو مصدر إلهام، فيتطابق عملهم مع عمل الباحث في التّاريخ، حيث تتجذّر معرفتهم في قراءات متأنّية للمصادر التّاريخيّة، ممّا يجعل سردهم يعارض في جوهره بين طريقتَين للتّعبير عن المعرفة: الرّسالة الجامدة المستندة إلى فكر مُستمَدّ من عصر ما، مع خطر الوقوع في التّجريد والموضوعيّة الضّيّقة، وخيال الرّاوي الذي يُخضع مطلب الحقيقة لمتعة السّرد، هذا السّرد الذي يُربك القارئ ويدفعه إلى المشاركة في عمليّة تفسير التّاريخ وإعادة بنائه.
يشكّل السّرد التّخييليّ المبنيّ على الوثيقة والشّاهد طبقةً من «الكتابة المتعدّدة الطّبقات»، إذ يتكشّف أثر التّاريخ فيه بوصفه مرجعًا حيًّا في بنية الرّواية التي تتحدّث عن زمن ماضٍ، وفي كلّ مكوّناتها، بحيث نقلت الخطاب السّرديّ مجدّدًا من عالم الدّالّ السّرديّ إلى عالم المرجع[8]، وذلك من خلال إعادة الصّفة للوثائق، المدوّنة في سياق السّرد وفي إحالات في الهوامش، التي أعادت ربط كلّ من الفواعل والزّمان والمكان بمرجع خارجيّ قائم في الواقع، عاشه الإنسان.
تسبق طبقة السّرد التّاريخيّ التّخييليّ طبقة السّرد التّاريخيّ الذي يعدّه بول فاين Paul Veyne، في المقام الأوّل، سردًا لأحداث حقيقيّة[9]، يستمدّ مضمونه من مجموعة من المصادر الخارجيّة، فيجمع بالتّالي بين سردَين متوازيَين يعزّزان بعضهما بعضًا: سرد الشّاهد وسرد المؤرّخ[10]. ويعتمد سرد المؤرّخ على شهادة الشّاهد، فهو يدوّن ما حكاه، أو يحكيه، فيمنحه معنًى تاريخيًّا ضمن سياق سرديّ؛ فالمؤرّخ، وفق ميشال فوكو Michel Foucault، يقول ما كان موجودًا بالفعل، ولكنّه لم يُقل من قبل[11]، ويمنح الشّهادة بالتّالي، من خلال سرده الذي يكتسب الطّابع العلميّ، شرعيّةَ البقاء، مع العلم أنّ هذا التّفاعل المتبادَل بين السّردَين يؤدّي إلى بنية سرديّة خاصّة تمزج بين خطابَين متشابكَين، مُستبعِدةً، الأصوات المتناقضة بغية الحفاظ على انسجام السّرد، معيدةً بناء استمراريّة سرديّة تتجاوز فجوات الجهل التي يُلقي المؤرِّخ فوقها جسورًا، استمراريّة تحمل في طيّاتها استمراريّة منطقيّة لسردٍ هو في الوقت نفسه خطاب. هكذا، يؤدّي النّصّ التّاريخيّ وظيفة مزدوجة: السّرد والّتفسير.
من هذه الازدواجيّة، يكتسب السّرد التّاريخيّ، بصفته نوعًا من الخطاب، بنية تنظيميّة محدّدة تجعل من المؤشّرات الزّمنيّة أدوات منطقيّة أيضًا؛ وهكذا، يُقدّم النّصّ إطارًا سببيًّا يتحوّل إلى نظام للحقيقة، وتصبح السّرديّات التّاريخيّة، بما تتضمّنه من دراسة المجتمعات، ذاتيّة المرجعيّة، إذ تسعى إلى حماية نفسها من الشّكّ في كونها مُصطنَعة؛ حيث تحدّد الواقع إلى درجة تجعلها، في الوقت نفسه، معقولة وقابلة للتّوثيق، وتختلط وجهة نظر المؤرّخ مع الواقع الموضوعيّ حتّى يصبحا معها غير مميَّزين؛ فصحيح أنّه لا يمكن سرد حدث، أو تمثيل بنية، أو وصف عمليّة من دون استخدام مفاهيم تاريخيّة تساعد على فهم الماضي؛ لكن، في الواقع، يتجاوز كلّ مفهوم التّفرُّد التّاريخيّ الذي يسعى إلى فهمه؛ فلا يوجد حدث فريد يمكن أن يُروى ضمن فئات تساوي في فرديّتها الحدث نفسه، على الرّغم من أنّ هذا الحدث قد يطالب بهذا الحقّ[12].
كذلك، يبتكر المؤرّخ لغة أو أسلوبًا يمكّن من استعادة الأصوات الصّامتة، تلك المدفونة أو الغارقة في النّصوص المنسيّة، ويجعلها تتحاور مع حاضرنا؛ فممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الأصوات صدحت في لحظة تاريخيّة معيّنة، ليست لحظتنا؛ لكن ما الذي يمكننا إدراكه من خطاب الغائب؟ الحاضر في وثائق آتية من مجتمع قديم يروي قصّته ويُعبّر عن نفسه، بصدقٍ، أو ربّما بكذبٍ، وثائق شيّدت قسمًا كبيرًا منها الذّاكرة التي “تتحرّك لتؤكّد استمراريّة كياننا؛ فحياتنا، أو ما تبقّى منها، معلّقة على بضع حبات مسبحة مشدودة بخيط رفيع من الذّاكرة، الذي قد ينقطع في أيّ لحظة؛ ومع ذلك، من يُثبِت لنا أنّ شذرات الذاكرة هذه هي فعلًا أصليّة؟”[13].
بغضّ النظر عن ذلك، تؤسّس هذه الخطابات، التّاريخيّة العلميّة والتّخييليّة، حالةً من الغيريّة؛ فهي، من خلال الوثائق، حيث النّقص، والفراغ والصّمت، تحثّ أعيننا وعقولنا على إزالة غشاوة العمى، مثيرةً فينا شغفًا في سرقة شيء من أولئك الذين عاشوا في الماضي، في الخوض داخل سرديّات صغيرة تشكّل “فضاء روائيًّا” موجودًا بالفعل، فضاءً روائيًّا يختبئ من دون أن ندركه؛ ففي قلب تلك الحيوات والوقائع المدفونة، تكمن شبكة من العلاقات المحدّدة والجديدة بين شخصيّات تنتمي إلى طبقات اجتماعيّة مختلفة، في ظلّ وجود سلطة توجّه وتأمر وتعيد تشكيل الهويّات.
فالذّات نفسها لا يمكن فهمها إلّا من خلال الآخر، وتتجلّى هذه الاستحالة في التّفاعل اللّفظيّ، بحيث يقوم الـ “أنا” بإنشاء الـ “أنت” والعكس: “عندما أقول ‘أنت’، أفهم أنّك قادر على تحديد نفسك كـ ‘أنا’[14]؛ بشكل عامّ، يمكننا القول: إنّ هذا التنوّع هو في الواقع شرط وأداة لديناميكيّة الهويّة، فـ “الآخر هو النّظير والمختلف في الوقت نفسه، نظيرٌ بسماته البشريّة أو الثّقافيّة المشتركة، ومختلف في تميّزه الفرديّ أو في اختلافه العرقيّ، فالاتّصال بالآخر هو خامة وجود الذّاتيّة وبيئة وجود الشّخص، وبدونها يهلك، إلّا أنّ “أنا” التي تحمل في داخلها ذاتًا أخرى غريبة عنها “أنا هي أخرى” تحتفظ بتأكيدها الذاتيّ الذي لا يمكن التخلّي عنه[15].
وللإضاءة على التّشكيلات السّرديّة في النّصّ التّاريخيّ، ارتأينا العمل على كتاب “مسيحيّو الشرق الأدنى زمن الإصلاح الكاثوليكيّ”[16]، بوصفه نموذجًا نتقصّى من خلال ما ورد فيه من وثائق وشهادات وتحليلات، سرديّة تحوُّل هويّة مسيحيّي الشّرق في القرنَين السّابع عشر والثّامن عشر، وكيفيّة نجاح الإصلاح الكاثوليكيّ في سبْرِ أغوارٍ ورسمِ معالمَ أعادت تشكيلها، وذلك ضمن مجتمع متعدّد الثّقافات والانتماءات، على أن تستند مقاربتنا إلى المنهج السّيميائيّ الاجتماعيّ للتّعمُّق في التّفاعلات بين الفواعل التّاريخيّة والسّياقات الاجتماعيّة التي تعيد تشكيل الهويّة.
لقد كان كلام بيار روندو Pierre Rondot، الذي استهلّ به برنار هيبرجيهBernard Heyberger كتابه، “إنّ تشتّت سكّان الشّرق المسيحيّين يثير أقصى الاهتمام أوّلًا، وليس بأقلّ من ذلك تنوّعهم الغريب: إنّها فُسَيْفِساء بالغة التّعقيد والتّداخل، حتّى إنّها تصيب رسّامها باليأس”[17]، حافزًا لتقصّي حقيقة الهويّة من خلال الكشف عن مظاهر صراعيّة تجسّدت في بينيّات مأزقيّة في نصّه التّاريخيّ المرجعيّ السّارد مجموعةً من المواقف والأحداث، متناولًا معضلات العلاقة بين الشّرق والغرب، أو بمعنى آخر المجابهة الحضاريّة، وواقع المسيحيّين الشرقيّين- الذين عرفوا مراحل ثلاث: البحث عن الهويّة – مساءلة الهويّة – فقدان الهويّة أو إعادة تشكّلها.
ثانيًا: تشكيلات الفضاء السّرديّ في النّصّ التّاريخيّ – مأزقيّات الهويّة
1- البحث عن الهويّة
تمثّلت المرحلة الأولى إذًا في البحث عن الهويّة، أي محاولة اكتشاف طبيعة (الـ “أنا” – الـ “نحن”) من خلال إدراك طبيعة الآخر، إذ لم يكن المسيحيّون موحّدين؛ فقد قُسِّموا ثلاث مجموعات يتباينون لغة وتقليدًا وثقافة، الموارنة والروم والأرمن؛ وقد عاشت كنائسهم جدالات مُتوارثة حول موضوعات لاهوتيّة أحدثت تصدّعات، وعاشت مجتمعاتهم انشقاقات ثقافيّة وسياسيّة، وعاشوا جميعًا مُتناثرين في جغرافيّةٍ بمعظمها مُسلِمة، في أحياء مشتركة مع المسلمين أو منفصلة عنهم، أو في قرى جبليّة عرفوا فيها العزلة حينًا، والتّنقُّل والتّشتُّت المُوقّت أو الدّائم حينًا آخر، يتعايشون مع الآخرين سلميًّا أو لا، بحسب تبدّلات الظّروف السّياسيّة.
تبرز حقيقة الهويّة من خلال مظاهر صراعيّة تجسّدت في بينيّات مأزقيّة تتكشّف في: العنف والتّسامُح، الانغلاق والانفتاح، الظلم والعدل، الاستسلام والمقاومة.
- العنف واللّطف
يفترض العنف وجودَ أطراف، تغيبُ مِساحات التّلاقي والحوار بينها، في مستوى قادة الدّول والزّعماء، وفي مستوى الأفراد وعامّة الشّعب، وقد شهِدت مناطق التّواجد المسيحيّ اضطرابات سياسيّة نتيجة التّوتّر بين الأسر الحاكمة، وقد ظهّرها النّصّ بشكل واضح، إلّا أنّ هذه النّزعة العنفيّة لم تكن دائمًا المسيطرة، إذ برزت مظاهر لُطف وتسامُح تجلّت في بعض المواقف.
العنف | اللّطف |
– قيام الأمير موسى بن حرفوش بنهب جبّة بشرّي.
– لجوء الموارنة إلى الكهوف للاحتماء من حملة عسكريّة لحاكم طرابلس. – فرار الناس تهرّبًا من الضّريبة. – عجز الدّويهي عن ممارسة مَهمّته كمُرسَل عام 1659 بسبب الاستبداد[18].
|
– تمتُّع أسرة الخازن المارونيّة بصلاحيّات جعلتها حاكمة.
– تحوُّل منطقة كسروان إلى أرض مسيحيّة كاملة أيّام الحكم المعنيّ. – إسهام الشّيوخ الدّروز الجنوبيّين في إقامة الرّوم والموارنة بين رعاياهم. – لجوء البطريرك عام 1609 إلى الشّوف تحت حماية الأمير. – تعايش الموارنة مع المسلمين والرّوم في الشّوف وصيدا والبقاع[19]. |
- الانغلاق والانفتاح
تنامت الصّراعات نتيجة الانغلاق ورفض الآخر المختلف عَقَائديًّا، فكانت الكراهية، والخشية المتبادلة بين مختلف الجماعات، ويعود الأساس الأيديولوجيّ لهذا الصراع إلى إعلاء كلّ فئة شأن هويّتها الجماعيّة ومحاولة إظهارها بصورة المتفوّق القادر على إلغاء الآخر؛ ويتكشّف الصّراع، في وجهة أولى، في ملفوظات حالة انغلاقيّة تعبّر عن الخشية من الآخر، أو في ملفوظاتِ حالةٍ تتراءى في التّمركز الذّاتيّ والشّعور بالتّفوّق على الآخر، ويتمظهر، في وجهة ثانية، في ملفوظات فعليّة حين لا يقتصر الصّراع على التّباين الفكريّ، إنما يتعدّاه إلى قمع الآخر ومنعه من ممارسة شعائره الدّينيّة، ورفضه في المجتمع بوصفه غريبًا لا ينتمي إلى محيطه:
من الملفوظات الفعليّة | من الملفوظات المعبّرة عن الشّعور بالتفوّق على الآخر واحتقاره |
شكوى خوري المدينة لأنّ على رعاياه من الروم الكاثوليك أن يشتركوا في الهيكل مع القساوسة الستّة المنشقّين عن طقسهم الدينيّ.[20]
|
قول الشيخ النابلسي: “من الأفضل أن يبقى المُهتدي الحديث للإسلام مسيحيًّا، فإنّ الله وحده، وإن وضع عمامة بيضاء ولبس ثيابًا إسلاميّةً، يستطيع فعلًا أن يعرف ما في قلبه. لم ينسَ ذاك الجلف الغليظ كيف كان يحارب المُسلِمين، مؤلِّهًا المسيح، وآكلًا لحم الخنزير، وعابدًا الأصنام؛ فإذا ما بصق، خرجت الخمرة من فمه”.[21] |
في ظلّ الغشاوة التي أحدثها تاريخ الصّراعات والانغلاق، تبرق لامعةً بعض المواقف الإنسانيّة الانفتاحيّة معيدةً التّوازن إلى العلاقات بين الأطراف المتباينة، وقد تمثّلت في تميُّز مواقف المسلمين تجاه اليهود والمسيحيّين بالتّعاطف والانفتاح في أحيان كثيرة… وتلقّي شبّان مسيحيّين دراسة اللّغة العربيّة على يد الشّيخ سليمان النّحوي[22]؛ ونقل الأعيان الأثرياء من المُسلمين بضائعَهم على سفن مسيحيّة…[23].
ج- الظّلم والعدل
أنتجت غالبيّة الأحداث والخطابات التّعسُّفيّة أوضاعًا خطِرة، بتأسيسها واقعًا مأساويًّا، وقد جاء الظّلم من الآخر العثمانيّ أو المسلم، مثلما تكرّس في الداخل، أي بين الطوائف المسيحيّة نفسها، وغالبًا ما اختزنت ملفوظات العبوديّة والتّمييز؛ لكن، في المقابل، يشير النّصّ إلى أحداث وخطاب عكسا العدل، بما يحمل من مفاهيم الإنصاف، والرّحمة، ومطلب الحرّيّة.
الظلم | العدل |
– تمتُّع المسلمين بامتيازات حُرِمَ منها المسيحيّون كتملُّك الأراضي والأبنية التّجاريّة في حلب.
– منع رجل دين من شراء الطّحين لطائفته في القدس قبل تلبية حاجات المسلمين كافّة[24]. – إجبار المسيحيّين على دفع الجزية، وغالبًا ما كانت الضّرائب تعسُّفيّة. – فرض علامات تمييزيّة على الذمّيّين، ما دفع الرّوم الأرثوذكس إلى الشكوى لدى بطريرك القسطنطينيّة ليشتكوا من وضعهم البائس. – إلزام المسيحيّين بوضع قبّعة وارتداء ملابس باللون الأزرق عام 1780[25]. |
– في الجبل اللّبنانيّ، تحت حكم الأمراء المعنيّين والشّهابيّين، أفلت المسيحيّون من تلك التّميّزات، فكتب الدّويهي: “رفع المسيحيّون رؤوسهم وشيّدوا كنائس…”[26].
– في النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر، كثرت المشاريع التّرميميّة لمباني المسيحيّين في حلب. – ورد على لسان الشّيخ علي المرادي حين دُمِّرَ معبد صيدنايا: “اذهبوا إلى هناك وابنوا فإنّ هذا الديرَ هو ديري”[27]. |
د- الاستسلام والمقاومة
تجسّدت المأزوميّة إزاء عنف الحروب، والانغلاق، وظلم السّلطات، في صورة صراعٍ وجوديّ بين الاستسلام والمقاومة، مثّلتها الخطابات والأفعال؛ أمّا سبب هذا التّرجُّح الدّاخليّ فيعود إلى كمّ المصائب التي يسبّبها المعتدون، وكثافة الظلاميّة التي تدفع ببعض الذّوات إمّا إلى خضوع بلا رجاءٍ واستسلام لسيطرتها، وإمّا إلى مقاومة تتحوّل إلى تحرّر رغبةً في حياةٍ لا مذلّة فيها ولا عذابات، إلّا أنّ هذه الثّنائيّة تماهت بسبب الصّراع المسيحيّ الدّاخليّ، فبات الفعل نفسه استسلامًا ومقاومةً تبعًا للمصالح.
لقد كان الكاثوليك في صدارة المشكوك في وفائهم للسّلطنة العثمانيّة وبخاصة بعدما تواطأوا مع العدوّ زمن الحروب الصّليبيّة، واتُّهِم الموارنة بالانتماء إلى حزب البابا، بعدما كانوا أوفياء لفخر الدين، إذ تمرّدوا على الصّدر الأعظم الّذي أغلق الكنائس ولاحق البطريرك[28].
لكن في المقابل، ظهر خصوم الحزب الكاثوليكيّ وطنيّين أكثر من العثمانيّين، فاتّهموا منافسيهم بأنّهم “إفرنجة”، إذ تحالف السّريان والأرمن بواسطة المفتي الأكبر ضدّ الكاثوليك الذين من طائفتهم، ولِكَي يرغموا قاضي حلب على تنفيذ الأحكام تجمهروا مرّات كثيرة أمام قصر العدل وهم يصرخون: “يا ابن محمّد، نحن من رعايا الصّدر الأعظم، لا نتعرّف إلى أمير آخر، ولا نريد أن نكون خاضعين للبابا”[29].
تجسّدت المقاومة أيضًا عمليًّا من خلال تحويل أزمة المثقّف آنذاك إلى عمل تغييريّ إصلاحيّ، فصحيح أنّ أزمة المثقّف تتمثّل في شعورَين، الأوّل المسؤوليّة تجاه المجتمع والثّاني العجز عن تغيير الواقع وعن هدم جدرانِ قيم يعيش عليها الناس ويتبنّونها، مع استحالة إيجاد لغة مشتركة للتّواصل… إلّا أنّ مُثقّفي روما الشّرقيّين أثبتوا عكس ذلك، ولم يكتفوا بتدجين أفكارهم وإيثارهم العزلة، إنّما سعوا إلى إعادة بناء مجتمعهم من خلال بناء المدارس وتعليم الأولاد وتوجيه الإكليروس المحلّيّ، فلم يواجه هؤلاء واقعهم بعبثيّة، إنّما وضعوا مشروعًا اختاروا من خلاله الأصالة الإنسانيّة في أحلك الظّروف العبثيّة، فهم أرادوا في خضمّ عظمة المأساة، الالتزام بموقف مُحدّد.
2- مساءلة الهويّة
ننتقل إلى المرحلة الثّانية، وهي مرحلة مساءلة الهويّة، حيث الاغتراب عن العالم الحضاريّ الثّقافيّ الخاصّ وعن عالم الآخر، بسبب العجز عن تحقيق الانتماء لأيّ منهما.
ويرتسم بذلك مفهوم أوّل وهو: الاغتراب، إذ يظهر بوضوح الانحراف بمعناه الفلسفيّ عن هويّة الآخرين والانجذاب إلى غيريّة سائدة؛ وقد شكّل هذا المفهوم مادّة دسمة للفلاسفة مثل هيجل وماركس وصولًا إلى فلاسفة الوجود المعاصرين كسارتر وياسبرز، بحيث باتت الهويّة مجرّد افتراض ميتافيزيقيّ في ظلّ وجود إنسان مغترب بطرق شتّى وبدرجات متباينة، يتنازعه قطبان الهويّة والاغتراب؛ وبمعنى أوضح تشدّه حرِّيّة داخليّة تذكّره بما ينبغي أن يكون، وتُخضِعُه ظروف خارجيّة؛ فيتشظّى ويتشتّت، أو ربّما يصطلح.
وإنّنا نتلمّس هذا الصّراع في الاغتراب الذي عاشه “المسيحيّون الشّرقيّون” ذاتيًّا وجماعيًّا ومكانيًّا، وبشكل حسِّيّ أكثر في واقعهم الاجتماعيّ والنّفسيّ والاقتصاديّ والدّينيّ؛ فانفتاح اقتصاد المنطقة على الغرب وازدياد تبعيّته له، دفع الكنائس والأفراد إلى البحث عن مساعدة المجتمعات المسيحيّة وممثّليها، فهم شهدوا المدّ الغربيّ من خلال حضور التّجّار الإفرنجة في المرافئ والدّبلوماسيّين الذين أمّنوا غطاء لمبعوثي الكنيسة الرّومانيّة[30]، وتطلّع المسيحيّون إلى البحث عن أشكال جديدة من التّضامن خارج الإمبراطوريّة العثمانيّة، مع سعيٍ إلى الارتباط بروما واختيار الكاثوليكيّة وفق مجمع ترانت المسكونيّ[31].
أمّا المفهوم الثّاني: الهويّة والتّمسّك بها فيتكوّن من الهاجس النّفسيّ المتحكّم في الذّات التي تلتحق بإطار اجتماعيّ وتلتزم بالعادات والتّقاليد والقيم بصفتهما ركائز أساسيّة لحركة الذّات داخل الجماعة؛ وممّا أشار إلى هذا التّمسّك:
دهشة الأوروبّيّين أمام تمسّك المجتمع المسيحيّ الشرقيّ بخصوصيّاته، أبرزها: تقديم الموارنة القدّاس وهم حفاة بحجّة التقوى؛ امتناع النساء المسيحيّات، المحجّبات شأن المسلمات، عن التردّد إلى الكنيسة في معظم الأحيان…[32]؛ الاختلاف بين موارنة مدينة حلب وموارنة الجبل انعكس انشقاقا بين الحلبيين والبلديّين[33]؛ وجود قسم في الكنيسة مخصّصٍ للنّساء يفصلهنّ عن الرجال ويدخلن إليه من باب مستقلّ[34]؛ تأثير نظام القرابة والانتماء إلى الأعيان في اختيار البطريرك والأساقفة[35].
كانت هذه الطّوابع الأخلاقيّة والدّينيّة والعائليّة تشكّل تراثًا مشتركًا لكلّ سكّان الشّرق الأدنى، مهما كان انتماؤهم الدّينيّ، مع خصوصيّة الهويّة المسيحيّة؛ لهذا نجد المسيحيّ أقرب إلى جاره السّنّيّ أو الدّرزيّ منه إلى المسيحيّ الغربيّ؛ وفي ظلّ هذا الصّراع بين الاغتراب والتّمسّك تبدأ الرّحلة أو الحلم بعالم جديد بلغ حدودًا متقدّمة حضاريًّا… لذا، ونظرًا إلى دقّة هذه المرحلة، ولتفادي نقل الصّور الملمَّعة أو المشوّهة المحفورة في الأذهان، حاول الكاتب في نصّه أن ينقل لنا العلاقة بين الأنا والآخر، الآخر الدّاخليّ والخارجيّ، راسمًا لنا لوحة فيها انتقاد وإدانة من جهة، ونقد ذاتيّ وفضح واعتراف بالفضل من جهة أخرى.
فمن ناحية، ألقى الضّوء على الطّابع الاستعماريّ الغربيّ ومحاولة القبض على الشّعوب الضّعيفة وإفقادها الثّقة بحضاراتها وأديانها وخصوصيّاتها؛ فقد تبيّن أنّ المحافظة على الأماكن المقدّسة لم تكن سوى امتدادٍ للحملة الصّليبيّة ومثالٍ على المقاومة الكاثوليكيّة في مواجهة الأعداء والكفّار والمنشقّين أو الهراطقة[36].
وفي هذا الجوّ من الحرب الصّليبيّة بدأت الإرساليّات الكاثوليكيّة بالتّوجّه إلى سوريا التي تشكّل إحدى المسارح الممكنة لتحقيق الطّموحات، وطوال القرن السّابع عشر دعم البابوات مشاريع الحرب ضد الكفرة بالمساعدات المادّيّة وبوعود النّعم الرّوحيّة[37]، ويُذكَر أنّ الكبّوشيّين أو اليسوعيّين ما كانوا بأقلّ حماسة من الفرنسيسكان في النّضال ضدّ التّركيّ، فتجنّدوا في الدّبلوماسيّة البابويّة لتنظيم التحالفات ولجمع الأموال[38].
إلّا أنّه من ناحية أخرى، فضح هذا الجوّ الأوهام التي جعلت الآخر الأوروبّي -حصرًا- السّبب الرّئيس في كثير من حالات التّشتُّت الذّاتيّ وفقدان الهويّة، ولمّع صورة كانت مُشوّشة وضبابيّة في الأذهان، واعترف بنزعة الإصلاح من خلال تخليص الشّعب من وحشيّته وهامشيّته، بعيدًا من فكرة الانتهاك والاغتصاب الحضاريّ.
فقد أجمعت تقارير المُرسَلين على جهل الشّعب والإكليروس. إذ “يفترض الغالبيّة أنّ الشّرقيّين هم في مُنتهى الجهل حتّى إنّه يُمكن إقناعهم بكلِّ ما يريدون. حقًّا إنّ الجهل كبيرٌ جدًّا بين هؤلاء المسيحيّين، الّذين يئِنّون منذ أكثر من ألف عام رازِحين تحت طغيان أمّةٍ بربريّةٍ. لكنّ الحال ليست سيّئةً جدًّا لدرجة أنّه قد وُجِدَ، وما يزال موجودًا، أساقفةٌ قادرون على أن يتصدّوا لمُرسَلين قليلي الكفاءة، شأن مُعظمهم”[39].
وكتب مُرسَل كبّوشيّ: “لا يوجد شخصان من عشرين يعرفون صلاة السّلام الملائكيّ والأبانا”؛ كذلك ذكر يسوعيّ بأنّه أعطى كعقاب في سرّ الاعتراف أن يكرّر المعترف إشارات الصّليب؛ لأنّه لا يعرف من المسيحيّة غير ذلك”[40].
من هنا، كانت الدّعوة إلى إنشاء مدرسة في حلب يديرها الآباء اليسوعيّون[41]، واقتراح بطريرك الملكيّين أفتيميوس السّكزي على المُرسَل اليسوعيّ جيروم كيرو المجيء إلى دمشق ليدرّس هناك، واغتباط مكاريوس الزّعيم لرؤيته الرّهبان الكبّوشيّين والرّهبان الكرمل يعلّمون في الكنيسة وفي البيوت[42].
3- إعادة تشكُّل الهويّة
تُجسّد المرحلة الثّالثة إعادة تكوّن الهويّة، وبخاصّة أنّ وجود المرسلين في الشّرق ألزم الدّول التي ينتمون إليها بحمايتهم، وشجّع البطاركة كالدّويهيّ مثلًا على طلب الحماية الفرنسيّة وإعلام لويس الرّابع عشر بعمليّات العنف المرتكبة ضدّ الأمّة وضدّه من المسلمين والهراطقة[43]. وقد مهّدت هذه الحماية إلى التّدخُّل في شؤون الطّوائف ووضع الشّرقيّين تحت الوصاية. لكنّ قسمًا من المُرسَلين رفض اللّجوء إلى الإرغام والتّهديد، وألحّ على حرّية اعتناق الإيمان المسيحيّ ورفض تعديل تقاليد البلاد حين لا تخالف الأخلاق أو الإيمان؛ من هنا، كان تأكيد مجمع انتشار الإيمان على شرعيّة الطّقوس الشّرقيّة، وعلى عدم الحاجة إلى المرور إلى الطّقس اللاتينيّ أو خلط التّقاليد.
وبدأ المرسلون بالانتشار أكثر فأكثر من خلال تعلّم اللّغة العربيّة، وسماع اعترافات الشرقيّين، وتسلّم وظائف رعويّة، والعمل في التّدريس، وإحضار كتب من الغرب تعالج قضايا عقائديّة، وزيادة عدد الإخوة المنتشرين في المدن، والإصرار على تدريب المُرسَلين، والوعظ وسماع الاعترافات، والاستعداد للمناقشة في قضايا عقائديّة مثل الرّوح القدس، والمطهر، والأسرار المقدّسة، وأخطاء الشّرقيّين.
ولم يهدف هؤلاء إلى هداية المسلمين، إنّما اقتصر ذلك على المرتدّين بينهم وعلى المنشقّين من دروز وعلويّين ويزيديّين، في حين أقاموا اتّصالات مع الفقهاء المسلمين والشيوخ والمفتين، وانفتحوا على المتصوّفين والدّراويش، وناقشوا في شؤون دينيّة لكسر جدار النّفور، ولتوضيح بعض العقائد؛ ورأوا أنّه وجبَتْ تنقية الطّقوس الشّرقيّة نتيجة الجهل والابتعاد عن الكنيسة الأمّ، لذا كان هدفهم:
تعليم المبادئ الأساسيّة للإيمان، والاهتمام بنظافة أماكن العبادة والزّينة، وإعادة النّظر في الأعراف والسّلوك، والعناية بالأطفال والنّساء المهملين والمبعدين عن ممارسة الشّعائر والتّربية الدّينيّة، وتعميق الدّيانة واللّجوء إلى فحص الضّمير والتّمارين الرّوحيّة[44]، والتّقرُّب من الإكليروس الهرطوقيّ أو المُنشقّ[45]، وإنشاء الأخويّات وتكثيف الاحتفالات الدينيّة، وزيارة القرى النّائية التي تعيش بؤسًا كبيرًا من دون أيّ خدمة طبِّيّة أو تعليم دينيّ[46].
وعلى الرّغم من معارضة السّلطان الإكليروس الشّرقيّ، وعلى الرّغم من الانتقاد الكبير لما عُدَّ احتقارًا للإيمان المسيحيّ الشّرقيّ وتعظيمًا للإيمان اللاتينيّ: “أليسوا مسيحيّين؟ أليس من المخجل أن يتخلّى المرء عن ديانة أجداده؛ ليتبع أجنبيَّين أو ثلاثة؟ ألا يؤمن السكّان المسيحيّون الشرقيّون بالمسيح؟…
وعلى الرغم من اتّهامهم بخداع النّساء والأطفال، وبتدبير المؤامرات، وإثارة نزاعات في صفوف المؤمنين… فقد نجح هؤلاء إلى حدّ كبير في بدء الإصلاح الكاثوليكيّ، وإعادة تكوين الهويّة المسيحيّة الشّرقيّة من خلال:
- اتّحاد قسم من المسيحيّين الشّرقيّين من روم وأرمن بكنيسة روما.
- تحديد عمر محدّد للوصول إلى مختلف درجات الكهنوت.
- إلزام البطريرك والأساقفة زيارة الأبرشيّات كلّ عامَين[47].
- إرسال المسابح لنشر الورديّة، وكتب التّعليم المسيحيّ لتعليم القساوسة كي يحسنوا منح الأسرار المقدّسة.
- توزيع الزّينة والكتب والأدوات اللّيترجيّة أو المال على الكنائس[48].
- تأسيس معهد أوربانوس سنة 1627 لإعداد قساوسة الأبرشيّات وسط إقبال عدد من طلّاب الشّرق الأدنى[49].
- إصلاح الرّهبان عن طريق تعديلات في القوانين الرّهبانيّة كالالتزام بالصّلاة وحظر الملكيّة الشّخصيّة…
- إعداد العلمانيّين عبر تأسيس مدارس وتعليم الأولاد في الأديرة والنّزل وتأمين الرّعاية الصّحِّيّة والغذائيّة لهم، والاهتمام بالإعداد اللّغويّ الأجنبيّ والعربيّ[50].
- التّنديد بالتّربية التّقليديّة وبناء جيل يتمتّع بسلوك اجتماعيّ يميّزه من الآخرين من خلال إعادة النّظر في الأساليب التّربويّة انطلاقًا من الأساليب اللاتينيّة[51].
- تعليم الإناث واستقبالهنّ في أخويّات مثل أخويّة القدّيسة كلير[52].
- الاهتمام بتمارين الميتة الصّالحة ومواجهة الآلام وعبادة القدّيسين، وتعديل بعض المظاهر المنحرفة عن الإيمان في أثناء وداع الميت، وإدخال مفهوم الوصيّة لفضّ النّزاعات المحتملة بسبب الميراث، وإعادة النّظر في التّقاليد المتعلّقة بالزّواج[53].
حملتنا المشاريع ذات الطّابع السّرديّ التي تبنّتها الفواعل البارزة في النّصّ التّاريخيّ إلى التّعمّق فيها، من طريق رصد معاجم الملفوظات والخطاب السّرديّ بشكل عامّ، في سبيل تأويلها تأويلًا سيميائيًّا اجتماعيًّا. ذلك أنّ القضايا الأساسيّة، والفئات الاجتماعيّة بهويّاتها المختلفة، تتجلّى في اللّهجات الاجتماعيّة وفي خطابات المتكلّمين وأفعالهم الذين يحملون إيديولوجيا خاصّة بهم، تنقل تصوّرهم للعالم؛ وهذا التّصوّر، الذي يُعَدّ حصيلة خبرات تاريخيّة وآراء وأفكار في صيرورة بناء المجتمع، يدفع بالفرد إلى أن يعي انتماءه إلى جماعة تختلف عن الآخرين، بكلّ تمايزها؛ ولا يفتأ هذا الوعي يُبنى كلّما نشطت آليّة الصّراع والمواجهة؛ والظاهر أنّ الحركيّة تَسِمُ فضاء الشّرق الأدنى، إمّا بسبب تبدّل معالمه بتأثير من حوادث الزّمن، وإمّا بسبب تشتّت الجماعة الإنسانيّة وتنقّلاتها؛ وبهذا ينحو اللااستقرار منحَيَين: سلبيّ يتمثّل في التّشتّت والضّياع والمحو، وإيجابيّ يتجلّى في تغيير الوضع القائم وإعادة تشكّل الهويّة.
وبهذا يُقرأ التّاريخ قراءة مُتماسكة، ويُنظر إلى الزّمن المتراكم نظرة أكثر واقعيّة، فيوضع حجر الأساس: إن لتحوُّلات عرفها المجتمع الشّرقيّ بشكل عامّ واللبنانيّ بشكل خاصّ، من انغلاق إلى انفتاح على الغرب المتحضّر المختلف؛ وإن لثوابت وعَوْد أبديّ لتشتُّت واغتراب؛ فلقد ارتبطت الذّات المسيحيّة الشّرقيّة بتراثها وبمجتمعها، لكنّها ظلّت أبدًا مسكونة بالغيريّة، على حدّ قول بول ريكور “الذّات عينُها هي الآخر”.
ثالثًا: النّصّ التّاريخيّ – رهان الحقيقيّ/المتخيَّل
بعد الإضاءة السّريعة على “سرديّة النّصّ التّاريخيّ المرجعيّ”، يتأكّد لنا أنّ الكتابة التّاريخيّة تمثّل نوعًا من السّلطة، ذلك أنّ التاريخ، كعلم، يستمدّ قوّته من معرفة الآخر، ويعمل لتأسيس “الحقيقة”، وهذا ما يفسّر وقوع الكتابة التّاريخيّة في مجال القوّة؛ قوّة المؤسّسة العلميّة، وأيضًا قوّة المثال الأخلاقيّ، وبالتالي، حول هذَين المسؤوليّة والمفهوم الأخلاقيّ، تتبلور عمليّة السّرد التّاريخيّ. لذا، تخضع عمليّة السّرد التّاريخيّ، كما تلمّسنا في بنية الخطاب التاريخيّ لدى هيبيرجيه، لقواعد واضحة، ففيها المخطّطات المنطقيّة، والأساليب التّفسيريّة، وحسن انتقاء المصادر والوثائق والشّهادات والأرشيف، في سبيل ربط الأحداث بخطاباتها؛ لكنّ هذا الطّموح، أعني به حسن توجيه السّلطة، يواجَه بمدى القدرة على الالتزام بالصّدق، أو ربّما تمييز الصّادق من المزيّف – المتسرّب في الوثائق والشّهادات التي توثّق الحياة اليوميّة، والتي من البديهيّ أن يُبالَغ في الاتّكاء عليها، ناسجةً فضاءً للدّهشة والتّأمُّل في طبيعة التّفاعلات بين التّجارب الفرديّة والسّياقات الاجتماعيّة والسّياسيّة المعقّدة – الذي يحمل المؤرّخ، في كثير من الأحيان، إلى اقتحام عالم التّخييل السّرديّ، بإدراكِه – حيث التّحيُّز الإيديولوجيّ الذي يمنح وظيفة إثباتيّة لبعض التمثيلات الاجتماعيّة على حساب أخرى – أو من دونه.
لكن هل يمثّل ذلك عيبًا أو تشويهًا للتاريخ، ونحن ندرك أنّ الواقع التّاريخيّ الّذي يخضع لحكمنا هو بناء تأويليّ للحدث كما يمكن أن يكون، أو يجب أن يكون، قد حدث، ممّا يجعله بطبيعته خياليًّا، وإن بشكل جزئيّ، بحيث يطوّر السّرد التّاريخيّ حبكة، ويرسم شخصيّات، ويحدّد وحدة للزّمان والمكان، ويستخدم صورًا وأشكالًا بلاغيّة تتشكّل في خطاباتها الوقائع، إذ “من العبث البحث عن صلة مباشرة بين الشّكل السّرديّ والأحداث كما وقعت بالفعل؛ فالصّلة لا يمكن أن تكون إلّا غير مباشرة عبر الشّرح، ومن خلال المرحلة الوثائقيّة التي تعتمد بدورها على الشّهادة وعلى مدى تصديقنا كلام الآخرين”[54].
في هذا الإطار، نستحضر ما قاله كونديرا “لن ننتهي أبدًا من الانتقادات التي توجَّه إلى أولئك الذين يشوّهون الماضي، يعيدون كتابته، ويزوّرونه، ويضخّمون أهمِّيّة حدث معيّن ويغضّون الطّرف عن آخر؛ هذه الانتقادات مبرَّرة […] لكنّها تظلّ بلا أهمِّيّة كبيرة إذا لم تسبقها انتقادات جوهريّة أكثر: نقد الذّاكرة البشريّة ذاتها […] حتّى أغنى الأرشيفات لا تستطيع تقديم الحلّ؛ فالذاكرة معزولة عمّا سبقها وما تلاها […] وإذا أردنا رواية هذا التذكُّر كقصة صغيرة ذات معنى، فسيكون لزامًا إدراجه ضمن سلسلة سببيّة لأحداث وأفعال وأقوال أخرى؛ وبما أنّنا نسيناها، فلن يبقى لنا سوى أن نخترعها لجعل التذكُّر مفهومًا”[55].
هكذا، عبر حكايات حقيقيّة أو سرد تخييليّ، يُنظر إلى التّاريخ كرواية يمكن استكشافها بعدّة طرق، أو كدائرة زمنيّة لا نهائيّة؛ ومن ثمّ، فإنّ استدعاءه يُسائل أنواع الزّمن المختلفة: الخطِّيّ، الدّائريّ، اللّولبيّ/الإهليلجيّ، وكذلك العلاقة بين الأزمنة الماضية والحاضرة، ومنها نحو زمن “ما بعد”.
الخاتمة
ختامًا، يُمكن القول إنّ التّشكيلات السّرديّة في الدّراسة التّاريخيّة تُمثّل بُعدًا جوهريًّا في فهم الحقب الزّمنيّة المختلفة وتحليل الأحداث بشكل متماسك. وقد أظهرت هذه الدّراسة عدم اقتصار السّرد التّاريخيّ على سرد الأحداث وفق تسلسلها الزّمنيّ، بل تجاوزه ذلك إلى تشكيل رؤية معرفيّة تتيح إدراك التّرابط بين الظّواهر التّاريخيّة واستنباط المعاني والدّروس منها.
بيّن البحث أنّ التّشكيل السّرديّ يتأثّر بالسّياقات الثّقافيّة والفكريّة التي عاشها المؤرّخ أو اتّكأ عليها، ممّا يعكس تنوُّعًا في أساليب معالجة الحدث التّاريخيّ ويُبرز إشكاليّات الموضوعيّة والتّأويل.
لقد سعينا من خلال هذه الدّراسة إلى توضيح العلاقة بين السّرد التّاريخيّ والبنية النّصِّيَّة للمادّة المدروسة، بحيث تناولنا جوانب هذا المفهوم، النّظريّة والتّطبيقيّة، وخلصنا إلى أنّ السّرد ليس مجرّد أداة وصفيّة بل هو عمليّة مركّبة تنطوي على اختيار، وتحليل، وإعادة صياغة للماضي. ومع ذلك، تبقى الحاجة ملحّة إلى مزيد من الدّراسات التي تستكشف هذا الموضوع من زوايا مختلفة، بخاصَّة في ما يتعلّق بالتّحليل المقارن بين السّرديّات التّاريخيّة في الثّقافات المتنوّعة.
مصادر الدراسة ومراجعها
المصادر والمراجع العربيّة والمعرّبة
سعيد، إدوار. الثقافة والإمبرياليّة، ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، 1977.
العيد، يمنى. الرواية العربيّة: المتخيَّل وبنيته، بيروت: دار الفارابي، 2011.
موران، إدغار. النهج: إنسانيّة البشريّة-الهويّة البشريّة، الإمارات العربيّة المتّحدة: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009.
المصادر والمراجع الأجنبيّة
Certeau (de), Michel. L’écriture de l’histoire, Paris : Gallimard, 2002.
Chartier, Roger. Au bord de la falaise. L’histoire entre certitudes et inquiétude, Paris : Albin Michel, 1998.
Foucault, Michel. L’Archéologie du savoir, Paris : Gallimard, 1969.
Heyberger, Bernard. Les chrétiens du Proche-Orient au temps de la Réforme catholique, Rome: Ecole Française de Rome, 2014.
Koselleck, Reinhart. Le futur passé. Contribution à la sémantique des temps historiques, Paris : EHESS, 1990.
Kundera, Milan. L’ignorance, Paris : Gallimard, 2003.
Lévy, Marcel. La Vie et moi, Paris : Phébus, 1998.
Mona Ozouf, « Récit des romanciers, récit des historiens », Le débat, 165, 2011, 13-25.
Perec, Georges. W ou le souvenir d’enfance, Paris : Denoël, 1975.
Prost, Antoine. Douze leçons sur l’histoire, Paris : Seuil, 1996.
Ricoeur, Paul. La mémoire, l’histoire, l’oubli, Paris : Seuil, 2003.
Ricoeur, Paul. « Le ‘soi’, digne d’estime et de respect », Morales 10, 88-99.
Veyne, Paul. Comment on écrit l’histoire ?, Paris : Seuil, 1971.
Watzlawick, Paul (dir.). L’invention de la réalité. Contributions au constructivisme, Paris : Seuil, 2000.
[1] برنار هيبرجيه، مؤرّخ ومستشرق، يشغل منصب مدير الدّراسات في مدرسة الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة ومدرسة الدّراسات العليا التّطبيقيَّة. يركّز أبحاثه على تاريخ المسيحيّين في الشّرق، بخاصّة العلاقات بين المسيحيّة والإسلام (الشّرق الأدنى في العصر العثمانيّ، البعثات المسيحيّة في البلدان الإسلاميّة…). من أبرز أعماله المنشورة “مسيحيّو الشّرق الأدنى في زمن الإصلاح الكاثوليكيّ”، “مسيحيّو المشرق”، “هنديّة/ الصّوفيّة الآثمة: أزمة دينيّة وسياسيّة في جبل لبنان القرن الثامن عشر…”.
[2] أستاذ محاضر في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، وأستاذ ومنسّق مادّة اللغة العربيّة وآدابها في مجموعة من الثانويّات؛ مدقّق ومحرّر في مجموعة من المؤسّسات الفكريّة والحقوقيّة ودور النّشر، منها مركز التّراث العربيّ المسيحيّ (CEDRAC) وحبيب ناشرون، والمفكّرة القانونيّة ومبادرة سياسات الغد. شارك في وضع مناهج اللّغة العربيّة لوارثي اللّغة، وفي تأليف كتب موجّهة للتّعليم الجامعيّ في جامعة جورجتاون في دولة قطر.
[3] إدوار سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، (بيروت: دار الآداب، 1977)، 190.
[4] Georges Perec, W ou le souvenir d’enfance, (Paris : Denoël, 1975), p. 17.
[5] Mona Ozouf, « Récit des romanciers, récit des historiens », Le débat, 165, 2011, 21.
[6] Roger Chartier, Au bord de la falaise. L’histoire entre certitudes et inquiétude, (Paris : Albin Michel, 1998), 93.
[7] Michel de Certeau, L’écriture de l’histoire, (Paris : Gallimard, 2000), 130-131.
[8] يمنى العيد، الرواية العربيّة: المتخيَّل وبنيته، (بيروت: دار الفارابي، 2011)، 10.
[9] Paul Veyne, Comment on écrit l’histoire ?, (Paris : Seuil, 1971), 35-47.
[10] Antoine Prost, Douze leçons sur l’histoire, (Paris : Seuil, 1996), 13-14.
[11] Michel Foucault, L’Archéologie du savoir, (Paris : Gallimard, 1969), 27-28.
[12] Reinhart Koselleck, Le futur passé. Contribution à la sémantique des temps historiques, (Paris : EHESS, 1990), 140.
[13] Marcel Lévy, La Vie et moi, (Paris : Phébus, 1998), 43.
[14] Paul Ricoeur, « Le ‘soi’, digne d’estime et de respect », Morales, 10, 1993, 92.
[15] إدغار موران، النهج: إنسانيّة البشريّة-الهويّة البشريّة، (الإمارات العربيّة المتّحدة: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2009)، 94-95.
[16]Bernard Heyberger, Les chrétiens du Proche-Orient au temps de la Réforme catholique, (Rome: Ecole Française de Rome, 2014).
[17] المصدر نفسه، 13.
[18] المصدر نفسه، 29-30.
[19] المصدر نفسه، 33-34.
[20] المصدر نفسه، 35.
[21] المصدر نفسه، 41.
[22] المصدر نفسه، 42.
[23] المصدر نفسه، 43.
[24] المصدر نفسه، 44.
[25] المصدر نفسه، 45.
[26] المصدر نفسه، 53.
[27] المصدر نفسه، 58.
[28] المصدر نفسه، 65.
[29] المصدر نفسه، 65.
[30] المصدر نفسه، 107.
[31] المصدر نفسه، 91.
[32] المصدر نفسه، 110.
[33] المصدر نفسه، 111.
[34] المصدر نفسه، 135.
[35] المصدر نفسه، 131.
[36] المصدر نفسه، 184.
[37] المصدر نفسه، 193.
[38] المصدر نفسه، 195.
[39] المصدر نفسه، 141.
[40] المصدر نفسه، 140.
[41] المصدر نفسه، 140.
[42] المصدر نفسه، 141.
[43] المصدر نفسه، 251.
[44] المصدر نفسه، 338.
[45] المصدر نفسه، 353.
[46] المصدر نفسه، 376.
[47] المصدر نفسه، 405.
[48] المصدر نفسه، 406.
[49] المصدر نفسه، 437.
[50] المصدر نفسه، 461.
[51] المصدر نفسه، 466.
[52] المصدر نفسه، 471.
[53] المصدر نفسه، 525-526.
[54] Paul Ricœur, La mémoire, l’histoire, l’oubli, (Paris : Seuil, 2003), 315
[55] Milan Kundera, L’ignorance, (Paris : Gallimard, 2003), 116-117
عدد الزوار:47