“رجال في الشّمس” و”أم سعد” لغسان كنفاني بين التّأثير الآني والتّشكيل الثّقافيّ

“رجال في الشّمس” و”أم سعد” لغسان كنفاني بين التّأثير الآني والتّشكيل الثّقافيّ
Men in the Sun and Umm Saad by Ghassan Kanafani: Between Immediate Impact and Cultural Formation
د.هبة العوطة
Dr. Hiba Al Outa
تاريخ الاستلام 3/3/ 2025 تاريخ القبول 2/4/2025
الملخص
إنّ غسان كنفاني لم يكن مجرد راوٍ للحكاية الفلسطينيّة، بل كان مُجدِّدًا في السرد العربي، استطاع أن يحوّل القضية من مأساة سياسية إلى تجربة إنسانية غنية بالأبعاد الرمزية والواقعية. فقد أظهرت “رجال في الشمس” الفلسطيني اللاجئ العالق بين الأمل والضياع، مستخدمةً الرمزية والموت العبثي، بينما قدّمت “أم سعد” نموذجًا للفلسطيني المنخرط في النضال، مما عكس تطوّر رؤية كنفاني نحو القضية.
وقد أثبت البحث أن هذين العملين لم يقتصرا على التأثير الأدبي الفوري، بل أسهما في تشكيل وعي ثقافي عميق حول الهوية الفلسطينيّة، وفتحا آفاقًا جديدة في الأدب العربي لكيفية تناول القضية الفلسطينيّة. كما أن التباين بينهما لم يكن مجرد اختلاف في الأسلوب، بل كان انعكاسًا لتحوّلات فكرية واجتماعية أثّرت في خطاب المقاومة والهوية. وبذلك، تبقى أعمال كنفاني شاهدًا على التحولات السردية والثقافية التي شكّلت الأدب الفلسطيني الحديث ورسّخت مكانته في المشهد الأدبي العربي.
Abstract
This study highlights that Ghassan Kanafani was not merely a storyteller of the Palestinian cause but a literary innovator who transformed it from a political tragedy into a deeply human experience rich in both symbolic and realistic dimensions. Men in the Sun portrays the Palestinian refugee trapped between hope and despair through symbolism and absurd death, while Umm Saad presents a character actively engaged in the struggle, reflecting Kanafani’s evolving vision of the Palestinian issue.
The research demonstrates that these two works not only had an immediate literary impact but also contributed to shaping a profound cultural awareness of Palestinian identity. They opened new horizons in Arabic literature for addressing the Palestinian cause. The contrast between them was not just a stylistic difference but a reflection of intellectual and social transformations that influenced the discourse of resistance and identity. Thus, Kanafani’s works remain a testament to the narrative and cultural shifts that shaped modern Palestinian literature and cemented its place in the Arabic literary landscape.
تمهيد
يُعَدّ غسان كنفاني أحد أبرز الكتّاب الذين شكّلوا منعطفًا مهمًا في مسيرة الرواية الفلسطينيّة والعربية، حيث استطاع عبر أعماله أن يُحوِّل القضية الفلسطينيّة من مجرد مأساة سياسية إلى تجربة إنسانية عميقة تتجلى في مصائر شخصياته وأسلوبه السردي. ومن بين أعماله الأكثر شهرة وتأثيرًا، تأتي روايتا “رجال في الشمس” (1963) “وأم سعد” (1969)، اللتان تُمثلان رؤيتين متكاملتين للصراع الفلسطيني، إحداهما من خلال الحكاية الرمزية التي ترصد مأساة الهروب والضياع، والأخرى عبر التفاعل المباشر مع النضال والكفاح المسلح.
“كان أثر النّكبة في الأدب دون المستوى لأنّ طبيعتها تغيّرت بسبب طول الزّمن: كانت أوّل حدوثها روعة تأخذ بالنّفوس والقلوب، كانت فاجعة، والفاجعة تُحدث عند من يتلقّاها ـــ صاحيًا بعض الصّحو أو كلّه ـــ ردًّا تلقائيًّا انفعاليًّا، وأدباء العرب في كلّ عصر يُحسنون هذا النّوع من الانفعال المباشر الّذي يُشبه انسكاب الدّموع. وقد كان العويل والنّدب من سمات الأدب الّذي انفجر توًّا بعد النّكبة. ثمّ تراخى الزّمن، وتبدّد الانفعال، ولم يعد النّظر إلى النّكبة من زاوية مذبحة دير ياسين، أو عرض أُبيح، أو طفل قُتل …، إنّما أصبحت النّكبة ذات عمق عربي (لا فلسطيني فقط)، وأصبحت مشكلة وجود، أي غدت تتطلّب من الأديب العربيّ جذوة خالدة من الشّعور، بحيث يراها مشكلته، ويتحسّسها قبل أيّة مشكلة. وهذا الوضع يحتاج أصالة في الادراك وسعة في الأفق وايمانًا بوحدة المصير”([1])، وهذا ما ينطبق تمامًا على أدب غسان كنفاني، الّذي يُصوّر بصدق وبحرارة وبشاعرية مأسويّة، ملحمة شعب زلزلته الهزيمة…
ثمّ أخذ يتجمّع، ويتسلّح، ويستعمل السّلاح في حركة مقاومة شعبيّة ليُحرّر أرضه المُغتصبة.
يعالج هذا البحث كلًا من رواياتي: «رجال في الشمس»، «وأم سعد» بين التّأثير الآنيّ والتّشكيل الثّقافيّ لنضع إصبعنا على ما حمله غسان كنفاني من هموم وهواجس وتطلّعات حول قضيّة الأمّة المركزيّة (فلسطين).
1- التّعريف بالرّوائي غسان كنفاني
غسان كنفاني: هو روائي وقاص وصحفي فلسطيني، ويعتبر غسان كنفاني أحد أشهر الكتّاب والصحافيين العرب في القرن العشرين. فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينيّة.
ولد في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من نيسان عام 1936م، وعاش في يافا حتى أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم إلى سوريا. عاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت، وفي تموز 1972، استشهد في بيروت مع ابنة أخته لميس في انفجار سيارة مفخخة على أيدي عملاء إسرائيليين.
أصدر غسان كنفاني حتى تاريخ وفاته المبكّر ثمانية عشر كتابًا، وكتب مئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني. في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة. وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات. وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية إلى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلدًا، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة. اثنتان من رواياته تحولتا إلى فيلمين سينمائيين. وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى اليوم بأهمية متزايدة.
على الرغم من أن روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية الأخرى قد كتبت في إطار قضية فلسطين وشعبها فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية عالمية شاملة.
كتب بشكل أساسي بمواضيع التحرر الفلسطيني، وهو عضو المكتب السياسي والناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في عام 1948 أُجبر وعائلته على النزوح فعاش في لبنان ثم في سوريا. أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في ذات العام سجّل في كليّة الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، انضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه إليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953. ذهب إلى الكويت حيث عمل في التدريس الابتدائي، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961)، التي كانت تنطق باسم الحركة، مسؤولًا عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها (ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم «مجلة الهدف» وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقًا رسميًا باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تزوج من سيدة دانماركية (آن) ورزق منها بولدين هما فايز وليلى.
من أعماله الرّوائيّة
- رجال في الشمس ــــ مؤسسة الأبحاث العربية ــــ بيروت، 1963.
- أم سعد مؤسسة الأبحاث العربية ــــ بيروت، 1969.
- عائد إلى حيفا ــــ مؤسسة الأبحاث العربية ــــ بيروت، 1970.
والقصصيّة
- موت سرير رقم 12 ــــ بيروت، 1961.
- أرض البرتقال الحزين ــــ بيروت، 1963.
- الشيء الآخر ــــ صدرت بعد استشهاده، في بيروت، 1980.
- القميص المسروق وقصص أخرى.
ترجم له
ترجمت معظم أعمال غسان كنفاني ونشرت في حوالي 16 لغة في عشرين دولة مختلفة. وتم إفراغ بعض رواياته في قالب مسرحي قدم في الإذاعات وعلى المسارح في كثير من الدول العربية والأجنبية، بين عامي 1983 و1986 تم اختيار أربع روايات وقصص صغيرة من أعمال كنفاني لنقلها إلى اللغة الألمانية. في العام 1992 ترجمت إلى الألمانية الرواية الشهيرة «عائد إلى حيفا»، وفي العام 1994 رواية «أرض البرتقال الحزين». كانت رواية «رجال في الشمس» الأولى التي تم نقلها إلى اللغة الإنكليزية في السبعينيات وصدرت عن دور نشر في إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم نقلت الرواية نفسها وخلال السنوات العشرين الماضية إلى 16 لغة وصدرت الطبعة الدانماركية لها العام 1990 والطبعة الإنكليزية العام 1992 في القاهرة، وكانت نقلت إلى اللغة الإيطالية وصدرت العام 1991، وإلى الإسبانية العام 1991 أيضًا حيث جمعت الروايات الثلاث «رجال في الشمس»، «أم سعد»، و«ما تبقى لكم» في مجلد واحد صدر في مدريد. وكانت الرواية الأخيرة قد نقلت إلى الإنكليزية وصدرت في الولايات المتحدة العام 1990، في حين صدرت الطبعة الإيطالية لرواية «عائد إلى حيفا» في روما العام 1991 ونقلت مجددًا إلى الإنكليزية في الولايات المتحدة العام 1994. أما كتاب «عالم ليس لنا» وهو مجموعة قصص قصيرة صدرت العام، فقد نقلت إلى الإيطالية وصدرت في روما العام 1993. غير أن أشهر وأروع القصص التي خص كنفاني بها الأطفال هي في كتاب «القنديل الصغير» الذي زينه بالرسومات، ونُقل إلى الألمانية أولًا، ثم إلى الفرنسية، وحوّل إلى مسرحية دمى متحركة في الدانمارك. وقد لاقت رواية «أم سعد» اهتمام الإذاعة الدانماركية التي خصصت في العام 1993 برنامجين مطولين عن غسان كنفاني حياته وأعماله.
2- رواية غسان كنفاني والتّأثير الآنيّ
- التّأثير الآنيّ في رواية «رجال في الشّمس»
«ليس من العسير على من يقرأ قصص غسان حسب تتابعها الزّمني أن يلمح فيها صورة من التّدرّج الواعي المتعمّد نحو واقعية صلبة محدّدة الحوافي، جاسية المظهر، مشمولة بمزيد من البساطة ومزيد من الوضوح، كأنّما كان دائمًا يحاول أن يقترب من حدود الهدف الّذي وضعه لنفسه ـــ في دور مبكر ـــ وهو أن «تكون القصّة واقعية مئة بالمئة، وبنفس الوقت تُعطي شعورًا هو غير موجود»([2]).
ولا يدلّ ذلك على محاولة التّفرّد والأصالة فحسب، وإنّما يدلّ أيضًا على مدى التّلازم بين الفنّ وقضيّة الانسان ومدى استعداد الفنّان لأن يجعل فنّه في خدمة الشّعب، وقدرته على الاحتفاظ بالتّوازن الضّروري بين الإثارة الفنيّة المتجدّدة والحاجة الشّعبية المتطوّرة.
يُخيّل إليّ أنّ غسان حين كتب هذه القصّة (رجال في الشّمس) كان يُعاني صراعًا حادًّا بين الاحساس بالواقع والاحساس بالفنّ، كان في واقعه يحسّ أنّه كأيّ فلسطيني آخر، مقهور مقتول وحبيس في مصيدة العجز والخذلان، ولهذا سمح لنفسه بالاختيار الحرّ في كلّ خطوة، «انتقى كلّ شيء بإرادة من يملك أن يختار دون أن يُحاسبه أحد، وجرّ الواقع إلى جوار كومة من القمامة، ليطرحه هناك، ويتشفّى بمصرعه، فهو واقع يغلّ يديه ويكبّل روحه، ولا بدّ له ـــ كي يرتاح ـــ من رؤيته صريعًا، فإذا كان ذلك امّحت المسافة بين ذلك الواقع وبين الفنّ»([3]) .
ومهما يكن من أمر فإنّ التّأثير الآنيّ يختلف عند غسان كنفاني في رواية «رجال في الشّمس» الأقدم عن «أم سعد» الأجدد، في حين كانت الارادة مسلوبة في الأولى، ثمّ بدأت تتضّح وتتطوّر نحو التّشكّل في الثّانية.
تعالج رواية غسان كنفاني «رجال في الشّمس» الصّادرة عن «منشورات الرّمال» في 110 صفحات مشكلة المهاجرين الفلسطينيين بعد النّكبة وتبعاتها وويلاتها، وهي إن تحدّثت عن واقع معيشي فلسطيني خاصّ، وحاولت أن توصله لمشكلة الهجرة بوجه عام لأيّ شعب مطرود من أرضه قسرًّا إلى وطن الحلم والاستقرار والمال، وهذا ما يحدث حتّى اليوم فيما ناره من هجرات سبّبتها الحروب الّتي لا ترحم الانسان فحسب، بل امتدّ سعارها إلى الشجرّ والحجر، كما نرى في العراق وسوريا واليمن وليبيا الّتي يمتدّ شواظ ألسنتها إلى ما حولها كذلك .
والسّؤال المحوري الّذي يطرح نفسه في الرّواية: هل استطاعت هذه الرّواية القيام بدور تحريضيّ لمواجهة الاعتداءات اليوميّة الّتي يُواجهها الشّعب الفلسطينيّ من قبل الاسرائيليين؟
إنّ رواية «رجال في الشّمس» عبّرت بعمق عمّا يحمله كنفاني من هواجس وهموم وتطلّعات فجاءت الرّواية لتحكي وقائع نكبة 1948 الّتي ألمّت بالشّعب الفلسطينيّ، وأنجبت جيلًا من اللاّجئين الفلسطينيين.
إنّ هذه الرّواية لا تزوّدنا بحلّ ايجابي، ولا تخلق بطلًا ثوريًّا، ليس لأسباب الشّتات الذّاتيّة، ولكن لأسباب موضوعية ترجع إلى عدم كفاية تطوّر تاريخي، وهي تمثّل نقدًا ذاتيًّا للفلسطينيين، يُدين فيها غسان القيادات العاجزة والخائنة، والشّعب المستسلم في مرحلة آنية، كما تصوّر قسوة المنفى تحت كافّة أشكاله، ولنبدأ بهذا المقطع الّذي يُجسّد الصّورة الحقيقيّة للقيادة العربيّة الّتي تجسّدت في أبي الخيزران: «ساقاه معلقتان إلى فوق وكتفاه ما زالتا فوق السّرير الأبيض المريح والألم الرّهيب يتلولب بين فخذيه … كانت ثمّة امرأة تساعد الأطبّاء، كلّما يتذكّر ذلك يعبق وجهه بالخجل … ثمّ ماذا نفعتك الوطنيّة ؟ لقد صرفت حياتك مغامرًا، وها أنت ذا أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة! وما الّذي أفدته؟ ليكسّر الفخّار بعضه. أنا لست أريد الآن إلاّ مزيدًا من النّقود … مزيدًا من النّقود»([4]).
وفي مشهد آخر: «دفعه الشّرطي أمام الضّابط فقال له: تحسب نفسك بطلًا وأنت على أكتاف البغال تتظاهر في الطّريق! بصق على وجهه ولكنه لم يتحرّك فيما أخذت البصقة تسيل ببطء نازلة من جبينه، لزجة كريهة تتكوّم على قمّة أنفه … أخرجوه، وحينما كان في الممرّ سمع الشّرطي القابض على ذراعه بعنف يقول بصوت خفيض: «يلعن أبو هالبهدلة» .. ثمّ أطلقه فمضى يركض»([5]). حيث أنّه ركب بغلًا وشارك المُتظاهرين، وهذا ما كشف صورة حقيقيّة عن هذا الانتهازي المُتسلّق والّذي صعد بعد عملية إخصائه لمركز قيادي وتابع حياته بشكل معتاد، والبصقة الّتي ألصقها الضّابط تُجسّد الدّول الكبرى التي قامت أوّلًا بإخصاء القيادة العربيّة ومن ثمّ إهانتها وإذلالها من دون أن تردّ الاهانة أن تدافع عن نفسها دفاعًا يعكس شخصيّة رجوليّة حقيقيّة، بل قبلت بها لتعكس نفسها ساقطة مُنحطّة قابلة بذلّها وخنوعها، أمّا السّبب الحقيقي الّذي جعل هذه القيادة تصعد سلّمها لم يكن هدفًا وطنيًّا بل كان هدفًا ماديًّا بحتًا، خمسون دينارًا هي الّتي جعلت أبو الخيزران يركب البغال مع المتظاهرين: « لولا ذلك لما حصّل الخمسين دينارًا كلّ حياته»([6]) .
وعند الانتقال إلى الحوار الّذي تلا وصول أبي الخيزران إلى النّقطة الجمركيّة وقيام صاحب عمله بالسّؤال عنه عدّة مرّات، تأخّر أيّامًا في البصرة من أجل تلك الرّاقصة، الأمر الّذي تسبّب في تأخّر الرّجال الثّلاثة في الخزّان أكثر من الوقت اللاّزم ليتسبّب في موتهم الّذي هو الهزيمة: «نظر الجميع إلى بعضهم فيما انقلب وجه أبي الخيزران الهزيل فصار مبيّضًا من فرط الرّعب وأخذ القلم يرتجف في يده
ـــ قصّة تلك الرّاقصة.. ما اسمها يا علي؟
ـــ كوكب.
ضرب أبو باقر طاولته بيده واتّسعت ابتسامته:
ـــ كوكب! كوكب! يا أبا خيزرانة يا ملعون … لماذا لا تحكي لنا قصصك في البصرة ؟ تمثّل أمامنا أنّك رجل مهذّب، ثم تمضي إلى البصرة فتمارس الشّرور السّبعة مع تلك الرّاقصة .. كوكب»([7])…
هذا الحوار جسّد ما ذكر سابقًا حول قراءة الحدث في تفاصيله البسيطة، مومس تعاشر مخصيّ ويتسبّب في تعطيل عمله وبثّ الدّعاية السّيئة لنفسه، وهذا ما يُسمّى بأنّه رائحة الفساد قد فاحت من داخل جحور هذه القيادات، فهي قيادات مهزومة وانتهازية وثمّ مخصيّة، إنّ كلّ هذه الصّفات إن اجتمعت في قيادة حتمًا ستوصل إلى هزيمة نكراء.
في المشهد ما قبل الأخير من الرّواية الذي قام به أبو الخيزران بإلقاء الرّجال الثّلاثة في القمامة، غير مكتفٍ بقيادتهم للموت (الهزيمة) بل كشف عن وجهه الحقير حين قام بإلقائهم على قارعة الطّريق ليُزيح المسؤولية عن نفسه وينقلها لآخر مُخليًا مسؤوليّته بسهولة عمّا تسبّب به من موتهم: «هنا تكوّم البلديّة القمامة … لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصّباح، ولدفنت بإشراف الحكومة»([8]).
هذا المشهد جسّد الفكرة الحقيقيّة لما قامت به القيادة العربيّة من إلقاء الشّعوب المهزومة المتجسّدة في الرّجال الثّلاثة على قارعة الطريق كي تُدفن بإشراف الحكومة، يعني هذا أنّ القيادة تُخلي مسؤوليتها منهم تمامًا .
ولنسير باتجاه الخاتمة الّتي حملت السّؤال الّذي حاول فيه أبو الخيزران إلقاء اللّوم على الموتى المهزومين الّذين قادهم بنفسه للهزيمة وبالتّالي للموت، كذلك ردّدت الصّحراء الصّدى: «لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان ؟… وفجأة بدأت الصّحراء كلّها تردّد الصّدى: لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزّان؟ لماذا؟ لماذا لماذا ؟»([9]). هذا السّؤال الّذي أبقاه كنفاني مُبهم الاجابة في ذلك العام من انجاز الرّواية، لكنّه عاد ليُجيب عنه مرّة أخرى في روايته «أم سعد»: «لقد التحق بالفدائيين»([10])، فكان هذا جواب السّؤال، المقاومة الشّعبيّة والعمل الفدائي هو السّبيل الوحيد لطرق الخزّان وخلق جيل جديد قادر أن يهزم الهزيمة الّتي خلّفتها القيادة الخرزانيّة في عام 1948 وتسبّبت في تشريد آلاف الفلسطينيين من مدنهم وقراهم إلى مدن أخرى في داخل فلسطين وإلى الدّول المجاورة.
- التّأثير الآنيّ في رواية «أم سعد»
تميّزت المرأة في الرّواية الفلسطينيّة بخصوصيّة جعلتها أنموذجًا يزخر بها الواقع، من خلال ابراز علاقتها بالقضيّة الوطنيّة وبالعالم من حولها. وقد شاركت المرأة الفلسطينيّة في الثّورات والانتفاضات الوطنيّة، ومارست دورًا نضاليًّا على جميع المستويات الوطنية والثّقافية، وأسهمت مساهمة فعّالة إلى جنب الرّجل في صياغة مستقبل الوطن، فأثبتت كفاءة عالية في تحمّل مسؤوليّة النّضال، وعبّرت عن حيويّة المجتمع الفلسطينيّ وقدرته على التّحوّل الايجابي تبعًا للظّروف
والدّخول إلى عالم رواية «غسان كنفاني» بعنوان «أم سعد» الصادرة في بيروت عن مؤسسة الأبحاث العربيّة، العام 2005 هو دعوة إلى اجتياز المسافة القائمة بين العالم المرجعي الّذي شكّل منطلق الرّواية بسطحه الّذي يتساوى جميع النّاس بالنّظر إليه، وبين ما قدّمت رؤية غسّان كنفاني منه. وذلك من خلال اللّغة الّتي صار معها العالم المرجعي عالمًا مُتخيّلًا. إنّ تعرّف تلك المسافة هو تعرّف الأدبيّة الّتي حفلت بها هذه الرّواية.
«ولا تقع المسافة خارج العالم المرجعي، فهو عمق من أعماقه غير المتناهية. وهي ليست مستقلّة عن رؤية الأدبيّة، فهي تمثيل دقيق للطّاقة الكشفيّة الخاصّة بتلك الرّؤية، لقدرتها على التّوغّل داخل العالم المرجعي بما يغيّب سطحه الظّاهر للعيان. إنّ العمق الّذي تصل إليه الرّؤية هو الفرادة الّتي هي عين الأدبيّة»([11])
ينتمي غسان كنفاني إلى الواقعيّة الاشتراكيّة من جهة تعامله مع الفاعليّة الأدبيّة، وإلى فضاء القضيّة الفلسطينيّة بوصفه فلسطينيًّا مقتلعًا من بيته وأرضه من جهة تفاعله مع القضايا الوطنيّة. يعني هذا أنّه قد جعل من حياته مرآة لمسيرة شعبه، ومن كتاباته شهادة على معنى التّمرّد والمقاومة، إنّه من أولئك الّذين يعملون على تقصير المسافة بين الفعل والكلمة، ويتطلّعون إلى توليد جنس جديد من البشر.
يُشكّل العنوان «أم سعد» الأنموذج الأمثل للصّمود والمقاومة الّتي تمتلكها المرأة الفلسطينيّة، وهي لم تنشأ صدفة، ولم تتكوّن شخصيّتها من فراغ «أم سعد امرأة حقيقيّة، أعرفها جيّدًا، وما زلت أراها دائمًا، وأحادثها، وأتعلّم منها، وتربطني بها قرابة ما»([12]). إنّها تحمل إرثًا من الوعي النّضالي، وهي ليست أم مُقتصرة على أبنائها فقط، بل هي أم لشعب بأسره، هي ذلك الصّوت الّذي يصدح بالحقّ، وهي تلك الرّوح الّتي دفعت ثمن الهزيمة، بأمنها وبيتها وانتهاءً بابنها سعد، وتجهّز الّذي يليه فداءً لفلسطين «تدفع، وتظلّ تدفع أكثر من الجميع»([13].
يهدي غسان روايته إلى «أم سعد» كون الرّواية تحمل اسم صاحبة الإهداء، ولكن الأمر أبعد من ذلك، إذ أنّ النّصّ الكامل للإهداء إلى أم سعد الشّعب والمدرسة، وتحليل هادئ للعبارة يوضّح ما يلي: إنّها رواية موجّهة لامرأة من المخيّم، ومن المعروف تاريخيًّا العبء الّذي تحمّلته المرأة الفلسطينيّة اللاّجئة إثر النّكبة. وماذا تكون الرّواية ان لم تكن سؤالًا جيّدًا ومسعىً مثابرًا للإجابة أو محاولة تقديم إجابة؟ ماذا تكون إن لم تكن صورة الواقع في تحوّلاته وطموحه للتّغيير وايجاد قواعد جديدة؟ «أم سعد» لم يستحضرها غسّان كنفاني من خياله، إنّها فلسطينيّة لحمًا ودمًا وثقافة، ذاكرة وتمثيلًا للوجود الانسانيّ على الأرض، والقصّة حين استحضرت عامل الزّمان الباني للرّواية في عنوان اللّوحة الأولى «أم سعد والحرب التي انتهت» أي نحن غداة حرب 1967، ويحوي هذا المدى الزّماني عشرين عامًا من عمر المنفى بعد اغتصاب فلسطين وهو المستوى الزّماني الأوّل . أمّا المستوى الزّماني الثّاني فيخصّ عمر «أم سعد» أربعون عامًا «إنّها سيّدة في الأربعين»([14]) تندرج في إطار سابق للمستوى الأوّل، تمثّل تطوّر الفلسطيني بصفة عامّة: كانت أم سعد شاهدًا عينيًّا لثورة 1936 ـــ 1939، لنكبة 1948 ولحرب 1967، كان هذا الاستحضار وظيفيًّا، وهذا التّاريخ ليس تاريخًا عابرًا هو تاريخ علاميّ مزدوج الدّلالة: فهو إيماءة من حيث امتداده إلى ثلاثة أزمنة ذكرناها آنفًا، وهو إيماءة من حيث آخره العام 1967 إلى تسليم جيل مقاوم الرّاية إلى جيل آخر. والسّؤال الّذي يطرح نفسه هنا هل استطاع غسان كنفاني أن يرسّخ ولادة الفلسطيني الجديد لجهة التأنّي عن الانسان المجرّد والفلسطيني المجرّد والاقتراب من الانسان الفلسطيني الّذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربيّ ؟ وهل استطاع أن يجسّد قضايا أمّته وأن يكون الشّاهد على عُري عصره وارتجاج موازين القيم فيه، حيث الاستلاب الدّاخلي والخارجي والأشياء تفقد طعمها تحت وطأة القمع المتمازج مع الثّورة؟
جملة أسئلة تستدعي الولوج إلى عمق الرّواية.
تُفتتح الرّواية على مشهد الحرب الحزيرانيّة الّتي كانت سببًا لخسارة مُضاعفة للمسحوقين الّذين تُمثّلهم «أم سعد» ـــ الشّعب مرّتين (1948 ـــ 1967)، وجاءت الهزيمة الثّانية لتذكّر سكّان المخيّم كم كانت تعيسة أمانيهم، وكم كانت العاقبة وخيمة «كان ذلك الصّباح تعيسًا. وبدت الشّمس المتوهّجة وراء النّافذة وكأنّها مجرّد قرص من النّار يلتهب في قبّة من الفراغ المروع، كنا نطوي أنفسنا على بعضنا كما تطوى الرّايات … وبدت أمام تلك الخلفيّة من الفراغ والصّمت والأسى مثل شيء ينبثق من رحم الأرض … فوراء ظهورنا تراكمت الدّروع المحطومة فوق الرّمل المهجور … وشقّت طوابير النازحين مسافات جديدة، كنت أسمع هدير الحرب من الرّاديو، ومنه سمعت صمت المقاتلين، وهو يتّكئ على الطّاولة ورائي ينوح مثل أرملة، ويطلي بصوته المهزوم كل أشياء الغرفة بالتفاهة: المكتبة، المقعد … وأحلام المستقبل، ويجعل الحبر بلا لون»([15]) .
انّ المفردات (الضّياع ـــ الصّمت ـــ الأسى) لخّصت واقع الهزيمة، و(الدّروع المحطومة) تُشير إلى الهزيمة التّاريخيّة، أما طوابير النّازحين (فتشير إلى الهزيمة الاجتماعيّة)، وكنفاني حين يصف المستقبل بالتّافه، إنّما يريد أن يُبرز من خلال هذه الصّفة فجيعته، فجيعة الأمّة بالحدث الحزيراني .
«تُراها ماذا ستقول الآن؟ لماذا تجيء وكأنّها تريد أن تبصق في وجوهنا؟»([16]) يُشير الاستفهام «لماذا» وتكراره مشفوعًا بالتّشبيه «وكأنّها» إلى ادانة كلّ من كان سببًا في الهزيمة النّكراء، فأتى الاستفهام نابضًا بالألم والحسرة، مُعبّرًا عن عمق اليأس من الاخفاق الّذي مُنوا به جميعًا.
لقد كان الانتظار على اختلاف أنواعه قاسمًا مُشتركًا بين كلّ فلسطينيي المخيّم وهاجسًا يعيشونه في كلّ لحظة من لحظات العمر. فبدت الأيّام بطيئة الحركة، وثقيلة الوقع، تحمل معها تهديدًا بانقضاء الشّباب وضياع العمر من دون جدوى بعد أن تجرّعت الجماهير الفلسطينيّة كؤوس البؤس والشّقاء طوال عشرين سنة بُعيد النكسة حزيران 1967 «أنا متعبة يا ابن عمي. اهترأ عمري في ذلك المخيّم. كلّ مساء أقول يا رب! وكلّ صباح أقول يا ربّ! وها قد مرّت عشرون سنة»([17]). فالمخيّم ليس إلاّ حبسًا «أتحسب أنّنا لا نعيش في الحبس؟ ماذا نفعل غير التّمشّي داخل ذلك الحبس العجيب؟ الحبوس أنواع يا ابن العم! المخيم حبس، وبيتك حبس، والجريدة حبس، والرّاديو حبس، والباص … أعمارنا حبس، والعشرون سنة الماضية، والمختار حبس.. تتكلّم أنت على الحبوس؟ طول عمرك محبوس … أنت توهم نفسك يا ابن العم بأن قضبان الحبس، حبس . أنت نفسك حبس»..([18]) إنّ استخدام الحوار هو الطّريقة المثلى لإقناع المثقّف بشكل سريع، وتكرار كلمة حبس (سبع عشرة مرّة) لتّأكيدٌ كافٍ على الشّحنة المعنويّة والدّلاليّة الكامنة في نفس كنفاني لمعاناته مرارة الغربة والابتعاد عن حضن فلسطين.
ومن الانتظار إلى الحبس إلى واقع المخيّم بكل أبعاده الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والإنسانية ومكابدة الهموم، وقساوة الظّروف المعيشيّة بما فيها من فقر وجوع وعمل مضنٍ، وسوء مأوى، وذلّ الانتظار أمام أبواب وكالة الغوث الفقر يا ابن العمّ الفقر … الفقر يجعل الملاك شيطانًا ويجعل الشّيطان ملاكًا، ما كان بوسع أبو سعد أن يفعل غير أن يترك خلقه يطلع ويفشه بالنّاس وبي وبخياله؟ كان أبو سعد مدعوسًا، مدعوسًا بالفقر، ومدعوسًا بالمقاهرة ومدعوسًا بكرت الاعاشة تحت سقف الزنكو ومدعوسًا تحت بسطار الدّولة … فماذا كان بوسعه أن يفعل؟
إنّ إثارة الكاتب لهذه الأسئلة ما هي إلاّ دلالة على عمق المأساة ومرارة التّشتّت الّتي كانت دافعًا لتحديد الهدف وتغيير المسار، والتّفاؤل الثّوري يغلب على قصص غسان رغم امتلائها بالألم والأسى الّذي لا يتركه غسّان من دون ردّ، فالأمّ تبشّر بالثّورة وتعرف أنّ جيلًا جديدًا سيحمل راية الانعتاق «إذا لم يذهب سعد فمن سيذهب؟.. قلتُ للمرأة الّتي جلست إلى جانبي في الباص أنّ ولدي أضحى مقاتلًا … أتعتقد أنّهم سيعطونه رشّاشًا؟»([19]) بدا واضحًا من المشهد أنّ مقدّمات رياح التّغيير بدأت تهبّ لتجرف كلّ أدران العفن الّتي لحقت بالأمّة في السّنوات العجاف، وبات لزامًا إشعال فتيل الصّحوة الّتي ستُعيد ترتيب الأوضاع على أسس جديدة عنوانها المقاومة، «وحدي؟ ماذا تعتقد يا ابن العم؟ وحدي؟ كنا كالنّمل. كل نساء المخيّم وأولاده وشبابه خرجوا وكأنّهم اتّفقوا على ذلك سلفًا، ووقفنا جميعًا هناك»([20]) يُظهر هذا المشهد أن الاضطهاد أضنى المقهورين، وجعلهم في حال استنفار، لذلك نشأت الحاجة لمحاربة منبع الظّلم، فترسّخت القناعة الجماعيّة بأنّ الكفاح هو السّبيل الوحيد للخلاص، وباتّحاد الوعي بين الجموع تولّد من رحم الاضطهاد الجماعي حال من التّضامن والالتقاء على وحدة المعركة الوجوديّة، فألقوا بخوفهم إلى هوة الجحيم، واختاروا المواجهة لتأكيد حقّهم في الوجود، وإلى تجاوز العجز والمساهمة في صناعة النّصر حيث يُصبح تحدّي الموت وقهره بطولة . وبذلك يمكننا القول إن الظّلم يغرس في وجدان الشّعوب المقهورة بذور الكفاح والتمرّد، فالنّفس البشريّة توّاقة إلى الكرامة والحريّة والشّعور بتقدير الذّات.
وفجأة تغيّر كل شيء «لقد ذهب تلك الظّهيرة إلى حيث كان مكبر الصّوت يعلو بحديث لم يكن يُسمع مثله من قبل، ووقف هناك فوق الجدار يرقب، مثلما المصاب بالذّهول، أطفال المخيّم وبناته ورجاله يقفزون عبر النّار ويزحفون تحت الأسلاك ويلوحون بأسلحتهم»([21]) يصوّر هذا المشهد نهوض المخيم وانتفاضه على البؤس، واعلان رفض الهزيمة حيث دخول العمل الفدائي إلى المخيّمات، فالثّورة تقلب الموازين وتغيّر البشر . ولعلّ خطاب أم سعد المرأة: «أمّا سعد نفسه ورفاقه، فيعتقدون أنّ حسن توصية بهم هي أن يرسلوا على الفور إلى الحرب»([22]) هو تلخيص للنّاتج الثّقافي الّذي حاولت الرّواية تقديمه، وينمّ عن تفاؤل كبير بأنّ الطّريق إلى التّحرير قد بدأ . وتقديم الرّواية «سعد وسعيد» نموذجين يُقتدى بهما إنّما يُمثّل إلحاحًا من الرّواية على وجوب الانخراط في المقاومة، وتحريضًا على أنّ السّلاح هو القيمة الحقيقيّة القادرة على التّحرير، فثقة كنفاني بالنّصر جعلته يرسمه في جبين الشّمس ظاهرًا يراه الجميع دون خوفٍ أو وجل.
3- رواية غسان كنفاني والتّشكيل الثّقافيّ
- التّشكيل الثّقافي في رواية «رجال في الشّمس»
لقد عبّرت «رجال في الشّمس» عن القضيّة، ومعاناة الانسان الفلسطينيّ وطموحاته بعد النّكبة، فقد اعتمدت الرّواية على عنصر المبالغة في التّصوير والمعالجة، مع محاولة الولوج إلى أعماق وأحاسيس الشّخصيّات ومعاناتها، وما يختمر في بواطنها من صراعات.
من واقع الحياة الفلسطينيّة، ومأساة الانسان الفلسطينيّ في تلك المرحلة، أبدع كنفاني طرائق مختلفة للتّعبير عن لحظات أكثر توتّرًا وأكثر مباشرة، بل أكثر وقوفًا عند آلام الفلسطينيّ المجفوع بعد فقده وطنه «فالأديب الحقيقيّ يهجس دائمًا بفكرة الخلود، بقدرة نصّه على فاعليّة مستمرّة تؤثّر في كلّ جيل من أجيال القرّاء، وتُسهم في تشكيل ثقافتهم»([23])، ولعلّ هذا كان دافعًا لتقديم المؤلّف أفكارًا إنسانيّة، هي غاية في الدّقّة لجوانب من حياة الشّعب الفلسطينيّ، ونضاله المستمرّ في البحث عن الحدّ الأدنى لمتطلّبات الحياة الإنسانية، إنّها «عمليّة كشفيّة مساهمة في اعادة تشكيل الانسان العربي الفلسطينيّ»([24]) .
العنوان بحدّ ذاته يُحيل إلى رمزيّة متناقضة، فكلمة (رجال) تُطالعنا لتجعلنا نتخيّل أبطالًا يمثّلون عنفوان الرّجولة وجوهرها، في حين تخذلنا أفعالهم، لا بل نرتطم بمدى انهزاميّتهم وتبعثرهم وشتاتهم، أما كلمة (الشّمس) والّتي تغمرنا بنورها وإشراقها، وتبعث فينا بصيص الحياة بمجرّد نطق اسمها، فإنّها تغدو في الرّواية أداة قاتلة، ومصدرًا مُثيرًا لبواعث القلق والإدانة. لقد وضعنا العنوان وسط مناخ مشوب بالتّشويق، وجعلنا نتطلّع إلى كيفيّة تشكّل الحدث في الرّواية، لأنّ هذا التشكّل هو النّظام السّيمولوجي الّذي يحدّد الوظيفة الّتي توخّاها كنفاني لروايته.
استثمر كنفاني حدث العودة في تشكيل عالم روايته الّذي يحمل همومه الثّقافيّة، ولعلّ الكاتب من هذا الجانب قد ارتقى ببعض شخصيّاته ـــ كشخصيّة أبي قيس على سبيل المثال ـــ ليصبح أنموذجًا للانسان القلق الباحث عن ذاته وهويّته ووجوده، كاسرًا بهذا حدود الزّمان والمكان.
وهذا ما نلحظه بوضوح في بداية الرّواية: «كلّما تنفّس رائحة الأرض وهو مستلقٍ فوقها خيّل إليه أنّه يتنسّم شعر زوجه حين تخرج من الحمّام وقد اغتسلت بالماء البارد.. الرّائحة ايّاها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد، وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيبًا»([25]).
يتجلّى في هذا العمل ايقاع الحنين إلى المكان المفقود، الأرض، والدّار والماضي بكلّ ما فيه، والاصرار المباشر على العودة إلى الأرض الّتي تغدو المرأة ذات الشّعر المبلّل الرّطب، ورائحتها الّتي تتماهى مع رائحة الأرض والوطن، وهنا تبدأ رحلة عودته في حلمه اليقظ إلى بلدته الصّغيرة القابعة في حضن الحزن والغمّ والتّرقّب والانتظار. لقد وضعنا هذا المشهد أمام عمق ما يحمله كنفاني من هموم وتطلّعات تتعلّق بالعودة، إنّه الهدف العاجل المنتمي إلى عمق التّشكيل الثّقافي الّذي تبنّته الرّواية والّذي لا تنفصل عنه.
إنّ ثقافة غسان الخاصّة لا تُلغي العقل والفهم الصّحيح لحقائق الأمور، بل تتّسم بالبساطة والوضوح والعمق في الوقت ذاته، حيث كانت ثقافته نابعة من ظروف الحياة المأسويّة الّتي عاشها، وظروف من حوله، وما يعانيه الانسان الفلسطينيّ من مشكلات، وما يتطلّع إليه من طموحات، ضمن مسار نضاله وتحدّيه اليومي، معتمدًا على المعالجات الثّوريّة النّضاليّة، لأنّها في أساس الأمر معالجات موجّهة للجماهير، وهذا ما يدفع إلى ضرورة اتّسامها بهذا الطّابع المباشر في التّعبير الأدبي. ومهما يكن من أمر فقد أخذت رواية «رجال في الشّمس» من العلامة والرّمز وسيلة للتّعبير، فأبطال الرّواية الثّلاثة: أبو قيس، أسعد، مروان: رمزٌ للشّعب الفلسطينيّ كلّه الّذي يمثّلونه، فهي تمثّل ثلاثة أجيال عمريّة مُختلفة، وتمثّل حقبات متعاقبة، وكأنّه يُحمّلها مسؤوليّة الهزيمة كأشخاص رموز، كل منهم تُوجد له مشاكله الخاصّة، لكنّ الطّريق لحلّ هذه المشاكل واحدة، وكانت النّهاية لكلّ منهم أيضًا واحدة: «جرّ الجثث واحدة واحدة من أقدامها وألقاها على رأس الطّريق»([26]). ورمزيّة العودة إلى الحلم الجميل الّذي يُمثّل جزءًا لا يتجزّأ من حياة الفلسطينيّ المشرّد الضّائع، الباحث عن هويّته وكينونته في كلّ لحظة من لحظات تشرّده وضياعه وتشتّته واحدة، فهو يحمل وطنه وكلّ القرى والأماكن الّتي سقطت في قلبه وعقله أينما ذهب، وهو روح هائمة تبحث عن مُستقرّ لها، وفي ذلك يقول أبو قيس مخاطبًا نفسه: «تموت؟ هيه! من قال أنّ ذلك ليس أفضل من حياتك الآن؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزّيتون العشر الّتي امتلكتها مرّة في قريتك … قريتك! هيه!» ([27])، هذا الموت هو الّذي يصل إليه أولئك المسافرون الثّلاثة الممعنون انقطاعًا عن أرضهم، فموت هؤلاء الثّلاثة كان محتومًا، وقذفهم في القمامة محتوم، ما داموا قد رضوا بالخزّان، والادانة هنا ضروريّة، وما داموا قد رضوا بالقيادة الفلسطينيّة آنذاك.
ولعلّ الكاتب قد أراد تفجير الحسّ الثّوري، والانطلاق المنتظر والتّجاوز المأمول داخل الشّخصيّة ذاتها، وكأنّ هذا التّبشير الرّمزي بالثّورة قد جاء على لسان أبي الخيزران: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟»، وقد حملت هذه الصّرخة دلالة ترجمها غسان كنفاني على هذا المستوى: إلى متى تظلّ بوادر الثّورة هاجعة لا تستيقظ ؟
مفاد القول أن هذه ثقافة جديدة ودعوة جديدة إلى بناء ثقافيّ يتجاوز النّكسة إلى النّجاح.
- التّشكيل الثّقافيّ في رواية «أم سعد»
تّعد الأرض من أبرز موضوعات الأدب الفلسطيني، فقد شكّلت وما زالت تُشكّل حضورًا مكثّفًا واعيًا فيه، واكتسبت نتيجة لخصوصيّة الواقع الفلسطيني أبعادًا كثيرة.
وبما أنّ جوهر الصّراع مع العدو الصّهيونيّ هو صراع على الأرض فقد تناولها كنفاني بوصفها رمزًا مقدّسًا للوجود له مزايا كثيرة: فهي أرض الرّباط ومهد الحضارات ومنطلق الرّسالات، وإليها أُسري رسولنا محمد(ص)، ومنها عُرج به إلى السّماوات العليا، وفيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين، فلم تعد مكانًا للحياة والسّكنى ومصدرًا للخير والسّعادة والهامًا للجمال فقط، بل غدت تجسيدًا واعيًا للهويّة الوطنيّة، والتئام الذّات بالوطن، وكيانًا حيًّا يتفاعل مع الأحداث ومن البديهيّ أن ينظر إليها كنفاني من زاوية خاصّة . فقد اتّخذت بُعدًا وطنيًّا قوميًّا أكثر عمقًا، بوصفها أرضًا شكّلت الصّراع بين أصحابها وبين طرف دخيل عليها، ثمّ سُلبت منهم بعد اقتلاعهم منها وتشريدهم، وهكذا اكتسبت معانٍ جديدة وقدسيّة أكثر من ذي قبل نتيجة الشّعور النّاتج عن فقدانها.
ويبقى لنا أن نسأل ما مدى إمكانات خصوصيّة غسان كنفاني الرّؤيويّة في الكشف عن أعماق جديدة تعتمل داخل حياة الفلسطينيين بين ثقافة الرّفض والمقاومة بكل آلامها من جهة أخرى؟
وهل استطاع كنفاني أن يوحّد (أم سعد/الأرض) ليبدّد ظلمات الواقع، ويحمّلها نبض الحياة ويدفعها نحو المستقبل لترنو إليه بعيون تمور بالثّقة والأمل؟
مزج كنفاني بين أم سعد والأرض مستهدفًا تأصيل العلاقة بينهما، لتغدو أم سعد معادلًا موضوعيًّا للأرض، حيث عجن الكاتب جسدها بهذه الأرض، وطبّعه بملامحها، وفجّر فيه ينابيع من نور ونار ليُصبح مؤهّلًا لحمل شعلة النّضال ودفع الجماهير الشّعبيّة إلى النّهوض والتّحرير. لقد وُلدت أم سعد من رحم الأرض «مثل شيء ينبثق من رحم الأرض»([28])، وحملت معها خصائص تلك الأرض وملامحها «ساعدها الّذي يُشبه لونه لون الأرض»([29])، وجهها «وكأنه تراب مسقي»([30])، كفّاها «كقطعتيْ حطب، مشقّقتين كجذع هرم»([31])، جبينها «الّذي له لون التّراب»([32])، قويّة «كما لا يستطيع الصّخر»([33])… كل ذلك يستمدّ قيمته من الأرض الّتي تناضل من أجلها، وبذلك تتجاوز المرأة حجمها المألوف فتصبح قدرة مطلقة حين تتحوّل إلى رمز، لتساهم في نقل هموم كنفاني وأوجاعه، وفي هذه الحالة وعندما تُقارن بالأرض تحمل نفحة من الكونيّة تخرج بها عن المألوف «شارة من الضّوء في بحر لا نهاية له من الظّلام»([34]).
واذا كان الانتظار على اختلاف أنواعه هو الهاجس الّذي عاشه الأدباء الفلسطينيون كل لحظة من لحظات عمرهم إلاّ انّ انتظار أم سعد واحساسها بمرور الزّمن يبدو من نوع خاص. انّه الانتظار الّذي يصحبه العمل ويحدوه الأمل بحياة أفضل «أريد أن أعيش حتى أراها. لا أريد أن أموت هنا في الوحل ووسط المطابخ»([35])، إنّ تأكيد الفعل أعيش بتعليل الرّؤية تجسيد للاحساس العميق والحادّ بمرور الزّمن، فيتّضح بذلك الدّور الّذي يؤدّيه الزمن في حياتها. إنّها تعيش زمن النّهوض المتمثّل في الثّورة الشّعبيّة المسلّحة «عادت أم سعد ففرشت راحتيها أمامي، كانت الجروح تمتدّ فوق خشونتهما أنهرًا حمراء جافّة، تفوح منهما رائحة فريدة، رائحة المقاومة الباسلة حين تكون جزءًا من جسد الانسان ودمائه»([36]).
لقد صاغ كنفاني (الأرض/أم سعد) منظومة قيميّة واحدة تحيل إلى قيم سامية مشتركة بينهما بمنح الحياة «هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخذ!» ([37])، وبذلك تنتعش روحها المعذّبة، وتضيء الطّريق للأجيال، ويُصبح الحلم قابلًا للتّحقّق . فالحلم ليس غيبيًّا بل هو الواقع الّذي بالامكان اختياره، فقد كان استبدال أم سعد لحجابها القديم الّذي كتبه لها شيخ «صنعه لي شيخ عتيق منذ كنا في فلسطين … إنّني أعلّقه منذ كان عمري عشر سنين، ظللنا فقراء، وظللنا نهترئ بالشّغل، وتشرّدنا، وعشنا هنا عشرين سنة … اذا مع الحجاب هيك، فكيف بدونه؟»([38]) برصاصة سعد المخبّأة في فراشه هو النتيجة الطّبيعية لإعلان عن تهاوي القيم القديمة الّتي كانت سببًا في الهزيمة لتحلّ محلّها قيمًا ثوريّة مستمدّة من واقع جديد يرفض المهادنة والاستسلام للقدر، أم سعد اذًا تنتقد المسار القديم وتدرك في الوقت نفسه المسار الحقيقي للتّحرير . انّها دعوة إلى ثقافة وانسان جديد وبداية التّغيير الجذري المطلوب الّذي يمثّل عمقًا من أعماق ذلك الاحباط الّذي وضعت الرّواية اصبعها عليه.
تنتهي الرّواية بالعود الجاف وقد اخضرّ وأزهر كما اخضر المخيم وأزهر بالثّورة . إنّها قوانين الحياة من صراع ونفي وتحوّل تاريخي يفرضه الواقع. وكأنّ صوت أم سعد هو انتقام من المحادثة الأولى والجدال حول عدم فائدته «برعمت الدالية يا ابن العم برعمت!»([39])، ظلّ كنفاني متمسّكًا بحلمه الّذي تنمو أغصانه يومًا بعد يوم لتخترق عنان السّماء وتزهر أوراقه، فهو على الرّغم من آلامه يمضي في سبيله ويزداد توهّجًا واشتعالًا، فالمناضل الفلسطيني مسكون بالحياة ودورتها الكاملة، مسكون بالخصوبة والبقاء والانبعاث ثانية بعد طول جفاف «تنظر إلى رأس أخضر كان يشقّ التّراب بعنفوان له صوت»([40]).
إنّها ثقافة غسان كنفاني ورؤيته الّتي تأبى الهزيمة والتّطويع والتّطبيع، وتستشرف المستقبل الآتي ببارقة أمل رغم عتمة الواقع الّذي لم يدخل كنفاني دائرة التّشاؤم بل رسّخ ايمانه بإشراق فجر جديد ينبثق من الواقع النّاهض ليُبدّد ظلمات الهزيمة، ويزرع الأمل والثّقة في نفوس كليلة هدّها الأسى والانتظار، ليرسم آفاق الثّورة والتّحرير.
الخاتمة
إنّ قراءة متأنّة لروايتيْ «رجال في الشّمس» و«أم سعد» لغسان كنفاني تكشف الصّراع الحادّ الّذي عاشه الشّعب الفلسطيني ضدّ العدوّ الاسرائيلي وتُعيد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية: أسئلة الولادة، والموت، والعلاقة بالأرض، والرّحلة والمصير . ولعلّ انشغال غسان بالعثور على أجوبة لأسئلته المؤرقة حول فلسطين دفعة إلى تعميق أسئلته لتصبح سؤال الانسان المقتلع المنفي المغترب عن شرطه الوجودي، ما جعلها صالحة لتكون ذات صبغة انسانيّة خالصة، كونية الهويّة بسبب الشّحنة الوجوديّة العميقة الّتي تنطوي عليها الشّخصيّات والأحداث. فأمام شخصيّاته الرّوائيّة خيار الهرب من الهدف الأساس (وهو التحرير)، المعادل للهروب من الذّات (أي الاستكانة والخضوع لمنطق العدوان).
ففي روايته «رجال في الشّمس» تشي مدلولات المعنى العام للنّصّ بإدانة الخيار السّلبي، فنرى أنّ الشّخصيّات الأساسيّة وهي (أبو قيس وأسعد ومروان) تلقى حتفها في مسارها الهروبي عبر الصّحراء إلى الكويت داخل خزّان مقفل . وفي اللّحظة الّتي يرمي فيها سائق الصّهريج (أبو الخيزران) بالجثث الثّلاث تبدأ أزمته فيصرخ لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟
وهكذا تنتهي الرّواية بهذا الشّعور المأزوم، وكأنّ الموت هنا يدلّ على خطأ مسار الهروب، وهو مسار يحتمل الموت وتنامي المأزق، كما انّه يدلّ على خطأ موصّفة الأحلام في المكان الوهم. لذلك نجد النّصّ ينتهي عند ذروة الأزمة، فيختمه بسؤال معلّق دون جواب. وتومئ هذه النّهاية إلى أنّ على الفلسطيني أن يكفّ عن مطاردة الحلم الوهم، أي وهم استرداد الكرامة في أرض أخرى، فلا مفرّ أمامه من مواجهة العدوّ بهدف تحويل الموت إلى حياة، والمهانة إلى كرامة.
بيْد أنّ هذا الخيار يتحوّل إلى خيار إيجابي في «أم سعد» بفعل تنامي الوعي وتبدّل الأحداث السّياسيّة عن طريق بروز المقاومة المسلحة. فالخيار المطروح في «أم سعد» هو الكفاح المسلّح، إذ يتمّ تحديد صورته وتأكيد حتميّة انتصاره، فيبرز أنّه الاستراتيجيّة الصّحيحة لاستعادة الأرض والهويّة.
نستنتج أنّ الوعي الفلسطينيّ كان منهمكًا بالهمّ اليومي في الرّواية الأولى، وهو تجسيد الذّات الباحثة عن حلّها الفردي، وأمّا في الرّواية الثّانية فتجسّد الرّؤية الجماعيّة الّتي أدركت أنّ الحلّ الثّوري هو طريق النّضال الّذي سيُعيد الذّات والأرض . هكذا تتبلور أهميّة البحث عن الخلاص الجماعيّ الكفيل بكسر أسوار المخيّم وتحويله من الدّاخل من ساحة فقر إلى ساحة ثورة، فالوعي الجماعي هو ثمرة تجارب تاريخيّة، وتراكمها أدّى إلى الانتقال من السّؤال إلى الجواب، وكأنّ سؤال الرّواية الأولى تجيب عنه الثّانية فتصير القضيّة المؤشّر الّذي حوّل الفرد جماعي، ويعود ذلك إلى كون غسان يُدرك أن الحكاية الفلسطينيّة هي من بين الحكايات الكبرى والتّراجيديّات المعقّدة الّتي تصلح أن تُفسّر على خلفيّتها معنى صراع البشر على الأرض والتّاريخ.
لا أظنّ في سياق مراجعة ما أنجزه غسان كنفاني أنّ هناك روائيًّا فلسطينيًّا آخر استطاع أن يغوص في أعماق التّجربة الفلسطينيّة ويكتب جوهر هذه التّجربة، جاعلًا مغامرة الفلسطينيين تتقاطع مع مصائر البشر جميعًا، مُعطيًا الحكاية الفلسطينيّة ملامح تاريخيّة مركّبة وامتدادات فلسفيّة تدور حول أسئلة المصير والارادة وقدرة الانسان على التّدخّل في اللّحظة الحاسمة لتقرير مصيره الفردي والعام. يبقى أنّ الرّوايتيْن قد واكبتا حركة التّاريخ، وأومأتا إلى مناخات عاشها مجتمعنا مرحلة بعد أخرى، مسهمتين بذلك بدور تحضيريّ آنيّ واستراتيجيّ.
ولكن هل استطاعت الرّواية العربيّة أن تطرح أسئلتها المحرجة للثّقافة العربيّة القائمة والّتي تعيش تبعيّة واضحة للثّقافة الغربيّة، في ظلّ عقل عربي عاجز؟ إنّ هذا السّؤال النّوعي وحده كفيل باكتشاف موقعنا الثّقافي في عالم اليوم من جهة، وبإعادة تشكيل ثقافتنا من جهة ثانية، فنكون على قدر المرحلة الّتي نتفيّأ تحت ظلالها.
المصادر والمراجع
- زيتون،علي مهدي، أدبية الرواية، دار المواسم، بيروت، لبنان، 2016.
- عباس، إحسان، فلسطين والأدب، مجلة الآداب، العدد الثالث، 1964.
- عباس، إحسان، الآثار الكاملة، المجلّد الأوّل، مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان، 29 أيلول 1972.
- كنفاني، غسان، رجال في الشّمس، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، ط6، 2005.
- كنفاني، غسان، أم سعد، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ط6، 2005.
- النقيب، فضل، عالم غسان كنفاني، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 13، 1972.
[1]ـــ احسان عباس ، فلسطين والأدب ، مجلة الآداب ، العدد الثالث ، 1964 ، ص 3 .
[2]ـــ فضل النقيب ، عالم غسان كنفاني ، مجلة شؤون فلسطينية ، العدد 13 ، 1972 ، ص 194 .
[3]ـــ إحسان عباس ، الآثار الكاملة ، المجلّد الأوّل ، مؤسّسة الأبحاث العربية ، بيروت ، لبنان ، 29 أيلول 1972 ، ص 11 ـــ 14 ـــ 20 ـــ 21 .
[4]ـــ غسان كنفاني ، رجال في الشّمس ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة ، بيروت ، مؤسّسة الأبحاث العربيّة ، ط6 ، 2005، ص 131 .
[5]ـــ م . ن ، ص 131 .
[6]ـــ م، ن، ص 131 .
[7]ـــ م،ن، ص 137 ـــ 138 .
[8]ـــ غسان كنفاني ، رجال في الشّمس ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005، ص 148 .
[9]ـــ م . ن ، ص 152 .
[10]ـــ م . ن ، ص 260 .
[11]ـــ علي مهدي زيتون ، أدبية الرواية ، دار المواسم ، بيروت ، لبنان ، 2016 ، ص 152 .
[12]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005 ، ص 241.
[13]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، ص 242 .
[14]ـــ م،ن ، ص 259 .
[15]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005، ص 245 ـــ 246 .
[16]ـــ م،ن، ص 246 .
[17]ـــ م،ن، ص 263 .
[18]ـــ ، غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6 ص 255 .
[19]ـــ ،م،ن، ص 263 ـــ 264 .
[20]ـــ م،ن ، ص 294 .
[21]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6 ، ص 332 .
[22]ـــ م،ن، ص 265 .
[23]ـــ علي مهدي زيتون ، أدبية الرواية ، دار المواسم ، بيروت ـــ لبنان ، 2016 ، ص 93 .
[24]ـــ م،س، ص 95 .
[25]ـــ غسان كنفاني ، رجال في الشّمس ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005، ص 37 .
[26]ـــ م، ن، ص 151 .
[27]ـــ غسان كنفاني ، رجال في الشّمس ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005 ، ص 48 .
[28]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005، ص 245 .
[29]ـــ م . ن ، ص 278 .
[30]ـــ م . ن ، ص 269 .
[31]ـــ م . ن ، ص 260 .
[32]ـــ م،ن، ص 250 .
[33]ـــ م . ن ، ص 259 .
[34]ـــ م . ن ، ص 273 .
[35]ـــ م . ن ، ص 271 .
[36]ـــ غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6، 2005 ، ص 297 .
[37]ـــ م . ن ، ص 334 .
[38]ـــ م . ن ، ص 326 .
[39]ـــ م،ن ،ص 336 .
[40]ـــ ، غسان كنفاني ، أم سعد ، من ضمن مجموعة الآثار الكاملة، بيروت، مؤسسة الآبحاث العربية، ط6 ص 366
عدد الزوار:13