“ناظم حكمت” الشّاعر الإنسان

“ناظم حكمت” الشّاعر الإنسان
Nazim Hekmet the Human Poet
د. سامي التّرّاس[1]
Dr. Sami El Tarras
تاريخ الاستلام 28/4/ 2025 تاريخ القبول 10/5/2025
المستخلص
نلقي الضّوء في هذا البحث معرّفين بالشّاعر التّركيّ ناظم حكمت، وبظروف حياته الّتي تكبّدها في السّجون، وحصاده الشّعريّ وراء القضبان، ثمّ نعرّج على تجربته السّجنيّة، فنقدّم قراءة لعيّنات مختارة من أشعاره المترجمة إلى العربيّة، وتحليلاً لقصيدة “سيرة ذاتيّة” الّتي كتبها بقلمه، ونرفد هذه التّجربة بقراءة لقصيدة “الرّاهب الأحمر” للشّاعر عمر شبلي ذي الخبرة العريقة في الأسر والاعتقال والزّنازين وأشعارها، وهو يُهديها إلى زميله الشّاعر السّجين ناظم حكمت، لنخلص إلى النّزعة الإنسانيّة في شعره.
الكلمات المفاتيح: السّجن، شاعر، إنسانيّة، شعر، تجربة، ناظم حكمت، عمر شبلي…
Abstract :
This study explores the life and the poetic legacy of the Turkish poet Nazim Hekmet, focusing on the hardships he endured during his imprisonment and the significant poetry he produced behind bars. It offers an analytical reading of selected poems translated into Arabic and an analysis of his poem “Autobiography”. The research also examines the poem “The Red Monk” by the poet Omar Shibli, who has a long experience with imprisonment and who dedicates this piece to his fellow the poet Nazim Hekmet. The study results in highlighting the deeply humanistic dimension in his poetry.
Keywords: prison, poet, humanity, poetry, experience, Nazim Hekmet, Omar Shibli…
مقدمة البحث
يعدُّ شعر السجون من ألوان الشعر الغنائيّ الوجدانيّ، من صنو المديح والرثاء والغزل… لما يتّسم به من الدفق العاطفيّ الناجم عن صدق التجربة، والمعاناة الكبيرة التي يكابدها الشاعر في الزنازين الانفرادية، والأسوار الشائكة المانعة، والسجون الموحشة المظلمة، والمنافي التي تجبر المنفيّ على العيش بعيداً عن وطنه وأرضه وبيئته، وما يتميّز به أيضا من القيم الإنسانية، والدعوة إلى العدل والمحبة والمساواة والسلام.
ويدخل شعر الأسر والسجون في الأدب العالمي لاشتراك الشعراء المساجين عبر أصقاع المعمورة في هذه التجربة الشعرية؛ أمثال بابلو نيرودا، وناظم حكمت، وعمر شبلي، وغيرهم…
وسيتطرّق هذا البحث إلى تجربة الشاعر التركيّ ناظم حكمت السجنية، وما يتميز به شعره السجنيّ من غنى إنسانيّ شامل، وإلى ما قاله فيه شعراً رفيقُه في هذه التجربة الشاعر اللبنانيّ عمر شبلي وهو أسير في السجون الإيرانية.
أ- ناظم حكمت: سيرة حياته وشعره
ولد في مدينة “سالونيك” التركيّة الواقعة إلى شمال اليونان في 7/2/1902م، لعائلة تركيّة محبّة للأدب والنضال، هو حفيد ناظم باشا الذي كان يشغل منصب عمدة مدينة حلب، وكان ينتمي إلى الطريقة المولويّة، وأمّه جليلة هانم كانت امرأة مثقّفةً تجيد الفرنسية، وتكتب قصائد رافضة، وترسم لوحاتٍ فنّية.
عمل في بداية حياته بالبحرية التركية، ودخل المدرسة الحربيّة حيث تخرّج ضابطاً، غير أنّ الانضباط العسكريّ لم يكن يناسب طبعه الثائر على بلادَة الأنظمة، فلم يستطع الاستمرار في البحرية.
شهد انهيار الأمبراطورية العثمانية في مراهقته، وعاش ثورة الأناضول التي أدّت إلى نشوء الجمهورية التركية، وقرّر سنة 1919م الفرار من مدينة اسطنبول، خصوصاً بعد أن احتلّتها جيوش الحلفاء، إلى بلاد الأناضول ليلتحق بصفوف المقاومة هناك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، والتي رآها انتفاضة راقية ومناضلة ضدّ الإمبريالية؛ وكان له الدور البارز في جبهة الحرب ضدَّ الحلفاء، والحركة التجديدية الإصلاحية التي رافقتها.
بعد العودة من الحرب أرسله أتاتورك في بعثة للدراسة في موسكو، فدرس علم الاجتماع بجامعة” كوتييف”، واستمرّ في الدراسة حتّى العام 1924، إلى أن عاد إلى اسطنبول حين إعلان الجمهورية في تركيا.
وخلال دراسته في موسكو تأثّر بالشعر الروسيّ، وخاصة بشعر “مايكوفسكي” و”يسينين”، واهتمّ بالفكر الثوريّ والماركسية، وتشرّب العقيدة الشيوعيّة، وحارب الإقطاعية فثار على البرجوازية ، وكان منحازاً باستمرار للفقراء والفلّاحين الكادحين؛ عارض النظام القائم، ودخل في الحزب الشيوعي التركي، وقام بنشر ديوان ثوريّ كان سبباً في دخوله السجن، فحكم عليه خمسة عشر عاما، لم يستكملها بسبب فراره من السجن بمساعدة زملائه، ليعيش بعدها حياةً غير مستقرّة ما بين السجن والمنفى.
في العام 1938 اعتقل بسبب نشاطه السياسي، وسجن حتّى العام 1950، حيث قضى أقسى مرحلة من حياته، لكنّه ظلّ يكتب الشعر، وقد عكست قصائده مأساة السجن التي فرضت عليه، والأزمات التي كان يمرّ بها العالم آنذاك، ووصف مشاهد من زيارات الأهل للسجناء المقرّبين. وكان رفاقه السجناء يسمّونه “المعلّم”، فيما يسمّيهم هو “أخوتي”!
في العام 1950 قرّر ناظم الإضراب عن الطعام، وبفعل التظاهرات المطالبة بإطلاق سراحه، والضغوط الداخلية والخارجية، خرج من السجن؛ غير أنّ السلطات التركية ضيّقت عليه ومنعت أشعاره من النشر، ففرّ إلى موسكو ثانية، وراح يتجوّل في بلدان أوروبا الشرقية مردّداً قصائده الممنوعة في منتدياتها الثقافية.
بقي في حلّ وترحال حتّى 1952، حيث أصيب بنوبة قلبية مفاجئة، فذهب إلى العلاج في موسكو وما لبث أن استعاد عافيته، وعاد إلى ممارسة نشاطه الأدبيّ عبر أسفاره إلى مصر وسوريا ولبنان وكوبا وفرنسا، واهباً كلّ إبداعه لمن أحبّه، مقاوماً مرضه المتفاقم، إلى أن تمكّن منه في النهاية، ليسلم الروح في 3 حزيران 1963م، عن عمر ناهز الواحد والستّين عاما، قضى نصفه إمّا في السجن وإمّا في المنفى، وبرغم هذا ظلّ ممتلئاً بالمرأة والنضال والعمق الفنيّ، والحياة الزاخرة بالثورة.
تشرّب ناظم حكمت العقيدة الشيوعية، وكان منحازا إلى الكادحين البائسين، ومعاديا شرساً للبرجوازية، كما كان ضدّ التقليدية في المجتمع التركي والتراث الديني.
وصفه أصدقاؤه بالعملاق ذي العينين الزرقاوين، شَعره يميل إلى الاحمرار، وطوله بلغ 190سم، كان لوسامته زيرَ نساء، أقام علاقات مع فنّانات ونساء مرموقات، أحبّ المرأة كثيراً، وتزوّج أكثر من ستّ مرّات، غير أنّه لم ينجب إلّا ولداً وحيداً من زوجته الأولى “منوّر”.
ترك ناظم حكمت زاداً وفيراً من الإبداع وهو في السجن، وضمَّت كتاباتُه :
1- الدفترالأول 1937م وكان بعنوان: “رحلة سفينة يوسف الحزينة إلى برشلونة”.
2- الدفتر الثاني: وتناول فيه أحداث حرب 1938م وعنوانه “رسائل رجل في الحبس الانفرادي”.
3- الدفتر الثالث:مسوّدات لقصائد كتبها في هذه المرحلة من سجنه في سجن سلطان أحمد، وسجن شنكاري.
4- الدفتر الرابع: أشعار في سجن شنكاري أيضاً، وقد صمَّنها كتاباً بعنوان”أراني في الأربعة من سجوني”.
5- الدفتر الخامس: رسائل لزوجته بعنوان” رسائل إلى بيرايا من شنكاري”.
6- الدفتر السادس: يشغل العام 1941م، عبارة عن مسودات ديوان سيصدر بعنوان”مناظر بشرية في بلدي”. ترجمه فاضل لقمان إلى العربية في أربعة أجزاء، ووضعه تحت عنوان” مشاهد إنسانية”.
7- الدفتر السابع: وبلغ قرابة ثلاثماية صفحة، وهو شبه فهرس يتضمَّن معلومات وتوضيحات عن الدفاتر الستّة، ومزوّد بملحق غنيّ بالمعلومات والصور عن ناظم حكمت.
لم تترجم أعمال شاعر تركي إلى لغات أخرى أكثر ممّا ترجمت أعمال ناطم حكمت، ولم يحظَ أحدٌ أيضا بمكانةٍ عالميّة كمكانته.
يقول الشاعر الفرنسي تريستان تزارا(1896-1963) في ترجمته لبعض قصائد ناظم حكمت إلى الفرنسية: ” تجسّد حياة ناظم تجارب قسم كبير من البشرية، تطرح قصائده طموح الشعب التركي والمثل المشتركة لجميع الشعوب في شروط إنسانية”[2]
وحظي بثناء كبير من الشعراء الأمريكان والإنكليز. يقول دينيز ليفيرتوف: ” شعر ناظم حكمت وما سمعته وقرأته عن حياته، لطالما ملأني بالمتعة والأمل والإصرار الجديد على الشعر والنضال”.[3]
ويقول ديفيد إيغناتاو في حديثه عن ناظم:” إنه يكتب أكثر أفكارنا خصوصية بمتعة وحبّ تجعلنا نكتنز تلك الأفكار بداخلنا”.[4]
ويقول بول زويغ:” حكمت هو أحد شعراء هذا القرن السياسيين المهمّين”.[5]
ويقول ويليام ستانلي ميروين:” حكمت شخصية ذات طاقة وموهبة عظيمة.”[6]
والمطّلع على شعر ناظم حكمت يجد أنّ ” القضية الشعرية عنده هي التعبير عن التوق للمستقبل، بقوّة الكشف والصمود في الحاضر. وغايته هي الدعوة لعالم جديد، مؤسَّس على نظرية جديدة، وصياغة ذلك من ألسنة الحرائق الشعرية في النفس..”[7]
ب- قراءة في تجربة ناظم حكمت السجنية
عاش ناظم حكمت الحياة بكلّ وجوهها، بحسناتها وسيئاتها، بحلوها ومرّها، ولم يطمع بمنصب أو جاهٍ أو يرغب فيهما، بل رأى أنّ أعلى ما وصل إليه هو إنسانيته التي رافقته من تبرعم وعيه إلى نهاية حياته. ولقد كانت هذه النزعة الإنسانية أوسع من انتمائه الحزبيّ، ما جعله يسير في نفق له جدران لا يستطيع الخروج منها، فهو تحمّل لأجلها الكثير من السجن والنفي والملاحقة، ومنع نشر نتاجه في بلاده.
رتّب حكمت أرشيف حياته زمانياً ومكانياً مع ما صاحبهما من تغيّرات، وكان يعتبر أنّ السعادة تتعدّى الزمكانية لكونها مرتبطة بالفعل الداخليّ للنفس الإنسانية، وهذا بارز في إشاراته إلى الكثير من الأنس الذي عايشه في السجن وهو في وطنه، بينما نجده ممتلئاً بالحزن وهو حرّ في ألمانيا، مع الفارق بين المكانين وتأثيرهما في وجدانه ونتاجه الشعريّ.
لقد صنع منه السجن إنساناً، فطبيعة السجن إمّا أن تخلق من السجين قدّيساً أو تجعله شيطاناً. وكان يردّد على مسامع أصدقائه: “لا شيء يعدل نسيم اسطنبول وتبغ بلاده!”
وهو استطاع بفرادته أن يجعل من السجن “عالماً جديداً ملأه بالحركة والنشاط والإبداع والعمل، حوَّل السجناء والسجّانين إلى أصدقاء له، وأخذ يعلّمهم الغناء الجماعي، ويعطيهم دروساً في الرسم والنحت، وشيئاً فشيئاً استطاع أن يعلّمهم أروع شيءٍ، وهو التفكير !.”[8]
إنّ تجربة الأسى والحزن التي يحياها السجين لسنوات إمّا أن تهدم النفس وإمّا أن تبنيها، لذا نبرّر لناظم خروجه عن الأطر الماركسيّة المادّية، لتناوله الإنسان من داخله، مع إصراره على كونه شيوعياً في معظم شعره، فشيوعيتُه مقتصرةٌ على نُصْرة الفقراء والمعذّبين والمحرومين، ومحاربة الإقطاع والجور.
لم يفهم من لينين ماركسيّته التي تغلق أبوابها على الإنسان، بل إنسانيته المتجلّية في نتاجه الذي اطّلع عليه، لذلك ندرك سرّ إعجابه بلينين ونتاجه الفكري، ورفضه للماركسية الستالينيّة الدّموية.
في هذه الحياة المتناقضة التي عاشها الشاعر رؤى ومدارك أبعد من أن تُحدّ؛ من هنا يبدو جلياً لجوؤه إلى علم البديع، وبالأخصّ إلى الطباق والمقابلة لتبيان هذا التناقض وإيضاح لظاهرة حياتية واقعية عنده.
كان يهتمّ بالأشياء البسيطة المعبّرة عن قضايا كبيرة وهو في السجن، كأنْ يصف نساءً حافيات القدمين واقفات أمام باب السجن ليزرْنَ أزواجهنّ؛ وفي هذا دعوةٌ إلى محاربة الظلم، وإطلاق حريّة الإنسان التي كفلتها له الحياة في حدودها الصحيحة.
لقد كان ناظم حكمت شاعراً ثورياً ينتصر لقضايا الإنسان الأساسية: الخبز- الحرّيّة – العدالة؛ كيف لا وتجربة السجن هي ما أكسبته معرفة عميقة بدواخل النفس الإنسانية، ففي الظروف القاسية يظهر الإنسان على حقيقته فعلا.
ولمّا كانت المرأة بالنسبة إلى السجين أهمّ ما يحضر في وجدانه بسبب حرمانه، رأينا ناظماً يُلحّ في استحضارها ولو واهماً، كيف لا وهي العنصر الأهم من عناصر الحياة، ففي استحضارها عودة النفس السجينة إلى بشريّتها وطبيعتها الآدمية. لذا لجأ إلى الواقعية في تجربته مع المرأة، فتعرّف إليها جسداً وروحاً، وكان صدقه في صداقاته وارتباطه أعلى من خداعه معشوقاتٍ أُخريات.
يقول في قصيدة سيرة ذاتية: ” كنت غيوراً على النساء اللّاتي أحببتهنّ ..لم أحسد تشارلي شابلن أبداً.. خدعتُ نسائي.”[9]
كان شاعرنا يتمنّى أن يكون شعره أكثر حضوراً في وطنه وبين أهله وأجيال تركيا، وهذا ما لم يتحقّق له في حياته، وهو ما كان يحزّ في نفسه؛ وقد بلغ شعره شهرة عالمية، ” كتاباتي منشورة في ثلاثين أو أربعين لغة.. وهي ممنوعة في بلدي تركيا في لغتي التركية”[10]، وذلك بسبب انتمائه السياسي غير المرغوب فيه في تركيا آنذاك.
لقد ظلّ السلام يمثّل لناظم أهمّ أركان وجوده، فهو المؤمن بالسلام والحبّ، حتّى مع المرحلة التي يشيخ فيها الحبّ، لكنه وقع في الحبّ في الستّين تقريباً… وانتصار الحب والسلام فيه بقي من طفولته إلى كهولته، فكان الشاعر الإنساني المناضل المنحاز إلى وطنه وأهله وشعبه بالرغم ممّا مرّ به من تجارب وخيبات وغربة ومنع وسجن وحسرات…
هو أحد شعراء تركيا الروّاد المجدّدين في الشعر، ومن مظاهر التجديد التي قام بها حكمت:
– نشر قصائد إيقاعية طنّانة عن الحبّ والعدالة، وكان الصوت الصارخ للنقد الاجتماعي في عصر الجمهورية الجديدة ، حيث لم يجرؤ كثيرون على قول أيّ شيء غير مناسب.
– دمج العديد من المفاهيم والتقنيات الجديدة التي كان لها الأثر البالغ في الشعر التركي الحديث، فكان من إبداعاته الشعر الحرّ، والتركيز الأيديولوجي، والأشطر “المكسورة”، والبِنية الحيّة، والاستعارات والصور الوظيفية…
– خلَق شعره مزيجاً من العناصر الغنائية والدراماتيكية والبلاغية، فكان فنّه شعراً نفعياً وتحريضياً في الوقت عينه. وكان في أفضل قصائده يدمج روح لوركا مع براعة مايكوفسكي.
– عرض ناظم حكمت عهوداً شعرية للإيمان والتأكيد والثقة، بسبب يأسه وغضبه من الظلم والاستغلال.
فنسمعه يقول: ” سنرى أياما جميلة/ سنرى/ أياما/ مشرقة”.[11]
وتعتبر قصائده التي كتبت في السجن أو خارجه ممثلة لشاعر مثالي روحه لا تنكسر، وغالبا ما كانت صيحات معركة، ولكنّها أحيانا تخون الشفقة على النفس والتهويل الذاتي.
بحلول عام 1941م كان ناظم حكمت في سجنه غاضباً وحاقدا:” قضيّتنا/ سيوفّي لها/ منقوعة بالدّم/ وسيُقتلع نصرنا/ كالظّفر/ بلا رحمة.”[12]
يرى ناظم حكمت “أنّ الفنّ الحقيقيّ هو الذي يعكس الحياة بكلّ تناقضاتها وصراعاتها وانتصاراتها وانكساراتها وحبّها وبغضها وكلّ مظاهر إبداع إنسانها. الفنّ الحقيقي هو الذي يرفض الزيف حول الحياة.”[13]
قال عنه سعيد عقل:” ناظم حكمت ثالث اثنين: دانتي وشكسبير”[14]
لقد كان ناظم حكمت” إنساناً وشاعراً معاً، في العيش والمعاملة والكفاح والحبّ والحديث والحوار، كان ممتلئاً بالحياة، فائضاً بالشعر بفعل الامتلاء.”[15]
إنّ جوهر القضية الشعرية عند “حكمت” هو التعبير عن آفاق المستقبل، حيث انطلق تيار الإبداع الشعري عنده من تجارب إنسانية نضالية جعلته يقف بثبات إلى جانب أكبر شعراء ذلك العصر من أمثال “مايكوفسكي” و” نيرودا” و” لوركا” و “أراغون”…
أوجد ناظم حكمت الشكل الشعري الذي يتّفق مع المضمون الثوري الدافق الذي عبّر عنه في أشعاره. فقد هجر العروض والوزن المعروف باسم “هجا”، والذي يعتمد على تكرار معيّن لعدد من المقاطع الصوتية، واصطنع فيه وزناً متحرّراً من القيود والتعقيدات العروضية، وأدخل نمطاً جديداً من الإيقاعات ومن المقاطع المتدرّجة التي تتدفّق من أوّل القصيدة، وتظلُّ تتغيّر وتتزايد إلى نهايتها.
كذلك حفلت معظم قصائده بنبض دراميّ حيّ، وتقنيات فنية رائعة، سواء أكانت تشكيلية أو موسيقية أو سيمائية.
يقول الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا” عن ناظم حكمت الذي زاره في موسكو:
” هو كاتب خرافيّ أسطوريّ، كانت حكومة بلاده الغريبة عن شعبه قد سجنته طويلاً، كان يحكي لي دائماً عن آلام شعبه، عن الفلاحين والعمّال الذين يضطهدهم بقسوة سادة تركيا الإقطاعيون، كان يقرأ لي شعراً يقول فيه:
” ضمّد جراحك بيديك الرّهيبتين
وعضَّ على شفتيكَ
مقاوماً الأوجاع.
أيُّها الفقراءُ في بلادي:
إنَّني معكم
لم تُحوّلْني الرّيحُ إلى ورقةٍ في مَهبّها
لقد سُقْتُ الرّيحَ أمامي..!” [16]
ونجد تأثير المكان وجغرافية السجن والوطن في شعره، فهو يصف زنزانته قائلاً:
“هذه النافذة ذات القضبان
وهذه الجدران الأربعة
التي لم تردّدْ على مسمعي
سوى صوتي أنا.”[17]
لقد غدا المكان الانفرادي المسجون فيه جزءاً من تركيبته، فانبرى مراقصاً هذا المكان رغم وجوده فيه.
“جلستُ على التراب باحترام وتُؤَده
وأسندت ظَهري إلى الجدار
وحدنا: الأرض والشمس وأنا
ما أسعدني!.”[18]
وفي قصيدة بعنوان “من معتقل اسطنبول” يستذكر ناظم أماكن عزيزة من وطنه قائلاً:
“وطني قطعان الماعز في وهاد أنقرة
البندق الممتلئ، والمفعم بالزيت في غيرسون
تفّاح أماسيا بخدّه المورّد وبرائحته العطرة.”[19]
إنّها جغرافية الوطن وذكرياته الجميلة فيه، يستحضرها حكمت في سجنه حيث كان يعشق تلك الأمكنة وما فيها.
ولكي نسير على منهجية قويمة، نفرد جزءاً من هذا البحث للشاعر الذي خاض التجربة السجنية عينها، واستحضر طيف ناظم حكمت في زنزانة “شماره جهاردا” في السجون الإيرانية، لأخذ وجهة نظر أخرى في شعر ناظم وشخصيته ورسالته الإنسانية التجديدية الإصلاحية، فنمضي مع عمر شبلي في قصيدته الموسومة بعنوان ” الراهب الأحمر” وتحليلها.
ج- قراءة في قصيدة ” الراهب الأحمر” لعمر شبلي
تحتلّ القصيدة المرتبة الرابعة في ديوانه الأسريّ الأوّل ” العناد في زمن مكسور”، وتشغل سبع صفحات منه، ختمها بمكان وزمان نظْمها، آراك مخصوص – 1986. وقد أهداها إلى الشاعر التركيّ الأسير مثله ناظم حكمت، الذي كنّى عنه بالراهب الأحمر لميله إلى الاشتراكية والشيوعية ورايتها الحمراء!…
فهو من مطلع القصيدة يشبّهه بـ “القمر الذي يرفّ على اليسار”[20] ليعبّر عن انتمائه إلى الحركات اليسارية التي نادت بها الشيوعية، والتي كانت دعوته إليها السبب المباشر في سجنه ومحاكمته ونفيه.
يستذكر الشاعر أحزان ناظم وعناده، ويتساءل عن أيامه السوداء في زنزانة انفرادية شبيهة بالقبر، وكيف مرّت عليه، وهو الخبير بآلام الزنازين وهمومها وعذاباتها…
ويقارن بين حال ناظم وحال الآخرين من أقرانه في تركيا، ويسأله ألم يهفُ إلى الأنثى؟ أو إلى نزهة فوق نهر الدّردنيل؟ ألم يهفُ لوجه ابنه؟
إنّه بهذا التراسل الحسيّ الوجدانيّ الشفيف يعبّر عن خوالجه هو بسؤاله لناظم، ويعلم ذلك في تأكيده القول: ” لا شكّ أنّك كنت مثل الناس تحلم بالحياة..وتودّ مثل الآخرين…”[21]
إنّ قدر الشعراء الكبار ألّا يستسلموا للسلطة الجائرة، وأن ينوّروا عقول الأجيال الناشئة، ويدرّبوها على الجرأة والتضحية والثورة على الظلم والاستبداد، وأن يكونوا أنصار ركب الفقراء المعذّبين المحرومين الذين” يدفنون همومهم تحت الرماد”.[22]
من هنا، كان ناظم حكمت نصير الجوعى والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، زرع قلبه محبة في دروب أولئك، وتشبّه بالراهب يتلو إنجيله ليلاً، ويطبّق تعاليمه نهارا. لقد صرخ رافضاً مؤامرة “فرعون المدينة”[23] على أتباعه وأهل مدينته، وأدرك أنّه “ارتحل الظلام، وأنه ابتدأ النهار!”[24]
ها هم أطفال تركيا الجياع ينشرون قصيدة ناظم الأخيرة المتسرّبة من سجنه، المتسلّلة إلى العيون الحالمة بالخلاص والحرّية “عبر الملايين الفقيرة، وهي تهتف للرغيف وللرّصاص”.[25]
ويتعجّب عمر -ويحقّ له العجب- من فائدة سجن ناظم جسداً في زنزانة، ما دام شعره في كلّ مكان، وفي عطفَة كلّ حيّ، وهذا هو الأخطر على الطواغيت في أيِّ زمان.
يوازي عمر بين حاله وحال “حكمت” في غاية السجّان منهما، وهي انهزام النفس الجموح وجنونها، كيما يصبح “جسمك كالصليب محايدا”[26]. وحين “يسأل السجّان عن عينيك ماذا فيهما، فتقول: أهلي”[27]، ويكويك السؤال والجواب، فلا تشعر إلا بالقهر والانكسار والضعف والقيد،”وتعود عصفوراً سجينا”[28]، وتنسى أطفال بلادك، لينام الوطن على صدرك كأنّه سلاسل ثقيلة.
إنّها تهمة الشاعر الثائر في كلّ قطر وعصر، وصول أفكاره إلى الآخرين، وبثّ الوعي فيهم، وإيقاظ روح الثورة في نفوسهم، وهذا ما يُقلق الحاكم الأريب ويهدّد بقاء عرشه.
ثمّ ترفع التقاريرعنه، ويبالغ السجّان في اتهامه بجموح السلوك وجنون الفكر والكلمة، فيقابلها باتساع حيّز التفاؤل في عينيه، غير أنّ الماء لا يروي ظامئاً، وأنّ الأحزان متّصلة بعذاب ناريّ لا ينتهي.” هذا الماء لا يكفي، وهذا الدمع متّصل بنار لا تغيب”[29]..
المشهد عينه في السجون والمعتقلات كلّها، السجين في واد، والسجّان في عالم آخر. تراه مهتمّا ببطاقة التموين الغذائيّ، بينما يئنّ السجناء من البرد والجوع وعبء السلاسل، والظلام والعزلة والحرمان.
وينقل الشاعر حديث سجّانه، إذ يخبره بأنّ ابنه قد بلغ العشرين من عمره، وهو في مثل توجّهه يكره دولته وحكّامها، ولا يشعر بحسّ الانتماء والوطنية، “يكره ظلّها العالي”[30]، لذا فهو يفضّل أن يكون سجّاناً ولو لعياله، على أن يكون سجيناً، فالحرّية عنده أفضل ألف مرّة من السجن؛ وهو متيقّن من نهضة قادمة وصحوة طارئة تمكّن بلاده تركيا من التطوّر والازدهار، واحترام حقوق شعبها وخدمته.” وأضاف: تركيا ستصحو وحدها”[31]. وذلك دون حاجة إلى شعر ناظم، وصراخ الفقراء والعمّال الكادحين وثورتهم…
وفي القسم الثالث من القصيدة يطلق عمر موقفه من السّاسة والشعراء مصرّحاً: “لا تسجنوا الشعراء”[32] فلماذا يا ترى!؟…
لأنّ دموعهم مقدّسة، وتضحياتهم قناديل تضيء دياجير الشعوب المغلوبة المقهورة..
لأنّهم يكابرون، ويجمعون ما تبقّى منهم بعد معاناة طويلة. ” لتجيء عنقاء القصيدة “[33]، تتصارع فيها الأفكار والرؤى، وتتلاعب بها رياح الأيام، ويَنِزّ من أجنحتها ضوء الأمل، والمحبة والخصب والعطاء، ودمٌ قانٍ مجبولٌ بالعنفوان والشموخ…
ثمّ يأتي الشاعر وحيداً فريداً، فقد بثّ بريق الرجاء وانطفأ، لأنّه عاد إلى واقعه/ سجنه؛ أو قلْ أعاده سجّانه إليه بعدما أطفأ ” كلّ ملامح الفوضى وأسئلة النهار”.[34]
في وحدته وعزلته لم يبق له إلّا صحبة القصيدة التي تشرئبّ إلى ” وطن يجيء ولا يجيء”[35]، مع أنّ قلبه كصحراء جليد، وهو بحاجة إلى الدخول في نهارها ليرتاح من غلوائه.
وفي القسم الرابع يتوجّه عمر شبلي إلى ناظم حكمت يخاطبه ويشدّ على يديه، ويحفّزه لمواصلة مسيرته النضالية لبلوغ الهدف، مؤكّداً استمرار الثورة ما دام الفقراء لا يملكون شراء رغيف الخبز، والتجّار منشغلون بالسؤال عن سعر الذهب لزيادة ثرواتهم وأطماعهم.
ويختم عمر قصيدته في ناظم حكمت بما بدأها، معترفاً لهذا الشاعر اليساريّ بأنّه من سجنه في “آراك مخصوص” بدأ يفهم شعره، كيف لا، وهو دخل في التجربة عينها وفي المعاناة ذاتها، فنراه يعلن:
” الآن أشرب نخْبَ حُزنكَ أيّها التّركيّ”.[36]
إن الشاعرين يتشاركان الحزن نفسه، وشعر الثورة نفسه، وإن كان ناظم حكمت القمر الذي” يرفّ على اليسار”[37]؛ المهمّ أن يهتف للانتفاضة على المتسلّطين الجائرين على شعوبهم التائقة إلى العدل والحقّ والسلام!…
لقد خسر العالم بغياب ناظم حكمت شاعراً عالمياً وإنساناً ملهماً، ورجلاً فذّاً، كان حبّه لبني البشر، وقناعاته بالأخوّة بينهم، يغطّيان العالم كلّه.
يقول صديقه في سجنه علي فائق البرجاوي:” سوف يذكر التاريخ والنّاس ما كان يتميّز به ناظم من عطف على الأصدقاء، وعلى النّاس، وما كان يحمل في قلبه من رفقٍ بهم، وإحسانٍ إليهم، ولو تعذَّر الإحسان، كما يذكر ما بذله في سبيل التقارب والتعاضد بين النّاس، وفي سبيل ما يوفّر لهم السعادة والأمن والحرّية والانعتاق. ولن يغفر التاريخ لهؤلاء الذين حرموه من الحرّية، وحَدُّوا من نشاطه الخلّاق طول خمسة عشر عاماً، قضاها متنقّلاً من سجن إلى سجن، في ملابسات أكثر ما تكون هَولاً وشقاءً ومعاناة…”[38]
“إنّ في شعر ناظم عرضاً مخلصاً لجميع القضايا الإنسانية، وتعرّضاً لمشكلات عدم المساواة، والاستغلال، والأنانية، والبربرية الرأسمالية، قديمها وحديثها، وفيه إشادة بالمحبّة الخالصة، وبالأخوّة الصافية، بالطّهر وبالبراءة، وبما إلى ذلك من القيم الإنسانية والحضارية المثلى.
ولم يتبنَّ أحدٌ كما تبنّى آلام الإنسان ومآسيه، ولم يشعر أحد شعوره بشقاء المحرومين، وبمعاناة المعذّبين في الأرض، وكان شعرُه نداءً هادراً كالسّيل في وجه الظلم، وكان النغم الحاني يحمل العزاء إلى النفوس، والسلوى إلى الأرواح والقلوب.”[39]
خاتمة البحث
لقد كان ناظم حكمت شاعراً ممتلئاً بالحياة والرغبة في الإصلاح والانحياز إلى الإنسان المقهور الذي سحقته أطماع السلطة، وجشع كبار المتموّلين والتجار وأرباب الصفقات والمتحكّمين بأتعاب وأرزاق الكادحين الضعفاء. وفضّل المنفى على الخضوع للسلطة الحاكمة الجائرة، لذا كان بحقّ الشاعر الإنسان، وهذا سرُّ أثر شعره وعالميته وخلوده…
فهل ستتحقّق رغبة الشعراء السجناء في بلوغ الشعوب المقهورة حياة كريمة، لطالما نشدوها وجهدوا في سبيل تحقيقها ليستعيدوا إنسانيتهم المسلوبة، وينشروا العدل والحقّ والسلام على مساحة هذا الكوكب!؟
قائمة المصادر والمراجع
-البرجاوي، علي فائق، مع ناظم حكمت في سجنه، دار ابن خلدون- بيروت، ط1، 1980م
– تازارا، تريستان، في دراسته عن ناظم حكمت، نقلاً عن مقدمة د.علي سعد بعنوان”نحو أدب واقعي، 1952م.
– حكمت، ناظم، الأعمال الشعرية الكاملة، تر. لقمان فاضل،ج2، دار الفارابي، بيروت، 1987م.
– حكمت، ناظم، أغنيات المنفى، تر. محمد البخاري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،ط2، 2002م.
– شبلي، عمر، العناد في زمن مكسور، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ط1 ،2001م.
– مقتطفات من أقوال ناظم حكمت، تر.ثابت العزاوي من كراس يالشين قيا – على شكل مخطوط.
– منتديات ستار تايمز، أرشيف أدباء وشعراء ومطبوعات. وهي منصّة على الآنترنت.
– مينة، حنّا، قضايا أدبية وفكرية، وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1971م.
– هالمان، طلعت سيد، ألفية لفي الأدب التركي، تر. محمد حقي سوتشين، مراجعة عبد القادر عبداللي، أنقرة، وزارة القفافة والسياحة التركية، 2014م.
[1] دكتوراه في اللغة العربية وآدابها ، جامعة الجنان، طرابلس، 2024م.
[2] – تريستان تازارا في دراسته عن ناظم حكمت، نقلاً عن مقدمة د.علي سعد.
[3] – ألفية في الأدب التركي،طلعت سعيد هالمان، تر. محمد حقي صوتشين، أنقرة- وزارة السياحة والثقافة التركية، 2014، ص116.
[4] – م،ن. ص،ن.
[6] – م،ن.ص، ن.
[7] – حنا مينه، قضايا أدبية وفكرية،ص 13.
[8] – ناظم حكمت، أغنيات المنفى، تر. محمد البخاري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،ط2، 2002م.ص 33
[9] – من قصيدة بعنوان” سيرة ذاتية/ ناظم حكمت بقلمه” كان قد كتبها في برلين الشرقية 11سبتمبر 1961م.
[10] – من القصيدة نفسها.
[11] – م،ن.ص،112.
[12] – م،ن، ص113.
[13] – مقتطفات من أقوال ناظم حكمت، تر.ثابت العزاوي من كراس يالشين قيا – على شكل مخطوط.
[14] – حنا مينة، قضايا أدبية وفكرية، ص 27
[15] -م، ن، ص 47.
[16] – منتديات ستار تايمز، أرشيف أدباء وشعراء ومطبوعات.
[17] – ناظم حكمت، الأعمال الشعرية الكاملة، تر. لقمان فاضل،ج2، ص 294.
[18] – م، ن، ص 299.
[19] – م،ن، ص 317.
[20] عمر شبلي، العناد في زمن مكسور، ص 46.
[21] م، ن. ص نفسها.
[22] م،ن.ص47.
[23] م، ن.ص، ن.
[24] م،ن. ص نفسها.
[25] م،ن.ص،48
[26] م،ن.ص،ن.
[27] م،ن. ص،ن.
[28] م،ن.، ص 49.
[29] م، ن. ص، ن
[30] م، ن. ص50
[31] م، ن. ص،ن.
[32] م، ن.ص،ن.
[33] م، ن.ص،ن.
[34] م،ن.ص51.
[35] م،ن. ص،ن.
[36] المصدر السابق. ص52.
[37] م،ن. ص،ن.
[38] – علي فائق البرجاوي، مع ناظم حكمت في سجنه، دار ابن خلدون- بيروت، ط1، 1980، ص 61.
[39] – م، ن، ص 87.
عدد الزوار:19