أنشطة ثقافية وإبداع أدبي

قصة / أقلام واعدة ألمٌ أو…

قصة / أقلام واعدة

ألمٌ أو…

مريم محسن اسماعيل

هي، مدلّلةٌ، بريئةٌ براءةَ الأطفال، مجتهدةٌ حدَّ التّفوق، ملحّةٌ حدَّ الإصرار، جميلةٌ كجمالِ بدرٍ في ليْلتِهِ الأولى. قصيرةُ القامةِ، بهيّةُ الطّلعةِ، عيناها فيروزيّتان، بشرتُها ناصعةٌ كالثّلجِ لا يستطيع  النّاظرُ إليها إطالةَ النّظرِ  لشدّةِ انعكاسِها. هي الابنةُ الصّغيرةَ لعائلةٍ متواضعةٍ تواضع السّنابل الملأى.
كانَت حياتُها جميلةً حدَّ الرّوعة ، فتاة لا ينقصُها من العلمِ والجمالِ والاهتمامِ شيءٌ. تطلبُ شيئًا فتأتيها أشياءٌ على عجلٍ. مخطوبةٌ لشابٍ وسيمٍ في مقتبلِ عمره . أحبَّها حبًّا جمًّا وسعى في رضاها سبلًا شتّى. أمّا عنها، فأحبَّته أو لعلّها اعتادَتْه واعتادَت اهتمامَه بها، فكان لها أبٌ عطوفٌ وصديقٌ صدوقٌ.
في أحدِ الأيّامِ العاصفةِ وبينما كانت تحتضنُ دفاترَها وكتبَها الّتي لطالما أمضت وقتها متسلّحةً بها، دخلَ أخوها الغرفةَ وملامحه قد تغيّرت وبادرها بالسّؤال: هل اتّصلّتِ بخطيبِكِ اليوم؟
أجابَتْه ورأسُها معلّقٌ في مسألةٍ رياضيّةٍ كانّتْ قد شرعَتْ في حلِّها: حاولْتُ الاتّصالَ به  لكنّ هاتفَه خارج التّغطية.
هزَّ رأسَه وأوصدَ البابَ خلفه.
خارجَ الغرفةِ ذاتِ الجدران الأربعة  قلقٌ، توتّرٌ ووشواتٌ بالكادِ تُسمعُ. ماذا يحدثُ يا تُرى؟
ما هي إلّا دقائق حتّى عزمَت الخروجَ من الغرفةِ لجلبِ كتابٍ إضافيٍّ تحتاجُه وإذا بها تصادفُ وجوهًا مكفهرّةً وأخرى عابسةً إضافةً لبعضِ الوجوهِ الّتي جعلتها تتساءلُ: ماذا يفعلُ هؤلاء في منزلنا؟ تُرى ما الّذي يجري؟ ولماذا يجتمعُ والدي وإخوتي هنا؟ أكملت تساؤلاتِها وهي في طريقِها لحيازةِ الكتاب. ثمّ استدارَت تسألُ الحاضرين : ما الخطب ؟ أشعرُ بضيقٍ في صدري وكأنّ خطيبي ليس على ما يرام. ما الّذي حلّ به؟ أخبروني.
نظر الجميع نظراتِ استغرابٍ. كيف لها أن تعرفَ أنّ به شيئًا وأخذ كلٌّ منهم يحدّق إلى الآخرراجيًا أن لا يكون خيبة أمل. أمّا عنها فنظراتُها تصولُ وتجولُ مستجديةً الإجابة.
أطبقَ الصّمتُ على المكان. وأطبقَ المكانُ على أنفاسِها.
فجأة ًرنّ هاتفُها وها هي صديقتها تهاتفها لتطمئنَّ عن وضعها، هي الّتي لم تعرفْ أنّ الأمرَ ما زالَ طيّ الكتمان.
كلماتٌ قليلةٌ لم يُسمعْ بعدها سوى صرخة موجعة خرجَتْ من أعماقِ مشاعرِها  آلمت الحاضرين دون استثناء.
سقطت مغشيًّا عليها. كانت الصّدمةُ قويّةً لدرجةِ الهلاك. تجمّعوا حولها، أيقظوها وهي تردّد اسمَه وتقول: هذا كذب، لا أصدّق، كيف هذا؟
استجمعَ الوالدُ قواه و لملمَ عباراتِه المرتجفةَ وبصوتِ المكسورِ المتألمِ : قضاء الله إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لا اعتراض على حكم الله . عليكِ أن تتحلي بالقوّة كما عرفناكِ دائمًا.
القوّة و من أين آتي بها من كان قوّتي رحل ومن كان سندي ذهب.
أجهشت بالبكاء لساعاتٍ، لأيّامٍ ، لأشهرٍ، لسنواتٍ. لم تفكّر يومًا في مثل هذه اللّحظة، لحظةٌ مصيريّةٌ سوداء ستغيّرٌ حياتَها. هو القدر خبّأَ لها الحسرات والأهوالِ فخطفَ أعزَّ مَنْ تملك. هو ملكُ الموتِ خيّمَ في ذلك اليومِ في قلبها.
باتَت المقابرُ ملاذها الوحيد وبات الضّريحُ أنسَها. هناك كانت تجدُ الطّمأنينةَ وهي الّتي كانت تتفادى المرورَ أمامها ها هي لا تبارحُها إلّا غصبًا. تمضي الوقت هناك بالقربِ منه تستشعره و تتحسّس وجودَه. كانت على يقينٍ أنّه يراها من عليائه  ويمسح ُعلى قلبِها. كانت تجلسُ بالسّاعات و السّاعات تحدّثُه و تكلّمُه. تروي له تفاصيل يومها وتخصّصُ وقتًا كافيًا لمعاتبته ِ على غيابه: كيف تركتني؟ أَلَمْ تعدني ألّا نفترق؟ لماذا تركتني هنا؟ خذني إليك. فالعيش مرٌّ دونَكَ. فراقُك يؤلمُني جدًّا، فراقَكَ أشبهُ بنزيفٍ داخليٍّ يقضي عليَّ رويدًا رويدًا.
لقد تحوّل الضّريح إلى جنّةٍ بفعلِ أناملها فزرعت له الجوريَّ المخمليَّ الأحمرَ الّذي اعتادَ أن يهديَه لها. وكانت كلّما حدّثَتْه أو قرأت له آياتٍ بيّناتٍ أو دعاءً طلبَت من اللّه أن يعطيَها إشارةً لتعرف أنّ ما قرأته قد وصل ثوابه إلى فقيد روحِها.  في يومٍ من الأيّامِ الصّافيةِ الهادئةِ وبينما كانت كعادتِها تقرأُ القرآنَ و ترتّلُه بصوتِها العذبِ طلبَت إشارةً وجاءَها أخيرًا ما تمنَّت. اهتزّت وردةٌ جوريّةٌ دون رفيقاتِها. وحدها تلك الوردة الّتي بالكاد تفتّحت اهتزّت فاهتزّت لها مشاعرُها، عدّتها بشرى سُرّت بها وضحكَ قلبُها لها. فالألمُ أصبحَ أمل وهي اسمها أمل.

عدد الزوار:173

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى