صدى الذّات في ديوان “هديل الغربة ،علا بدر الدّين”- عمر شبلي

علا بدر الدين الهزيم فتاة جنوبية الهوى والمنى، جنوبية في حِلِّها وترحالها، أينما ذهبت ترى الجنوب في ملامحها وأحاسيسها ولهجتها وثيابها المتشحة بحزن النبطية التاريخي، وبجرأة الملامح على إتقان التحدي، ذلك الموروث من ثقافة حسينية استطاعت أن تلد أجيالاً تعرف كيف تصون الأرض والعرض، وأن تجعل مقاومة المعتدين ثقافة تمتدُّ من الشهيد إلى الشهيد، وكانت ثقافتها تختزن موروثاً إنسانيّاً يتجاوزمحدودية الانتماء لفئة دون غيرها. إن الانحياز للعدالة موقفٌ وثقافة وفعلٌ. وبمقدار تعلقِ علا بدر الدين الهزيم بجنوبها المتجذر في تكوينها يتملَّكُها حسٌّ إنساني لا يحدُّه سوى إيمانها المطلق بانتصار قيم الحق والجمال.
الطريق إلى الجنوب في شعر علا بدر الدين يمرُّ عبر القلب، تقول في قصيدة “حنين”: /جنوبُ يا جنوب/أراك في حقائبي/ أراك في ذوائبي/ أراك في ترائبي/ أراك في حديث كل نسمةٍ/ توشك أن تبدأَ بالهبوب/ أراك في الفجر الذي يعلن عن مواكب الضياء/أراك يا جنوب/ حين يجيء الحزنُ في المساء/ ويبدأ الغريبُ بالبكاء/ أراك في الليل إذا/ خيَّمَ فوق العالمِ السكون/ حين القناديلُ يكون زيتُها/ من أدمع الغريب/. كانت تحمل الجنوب في تفاصيل حياتها وفي حقائبها أنّى توجَّهت، كانت تحمل الجنوب كسلاح تقاوم به الغربة والأسى، حتى لكأنه الدواء لكل داء. وحين يكون الحنين حاضراً بقوة في الغربة فإنه يتحول إلى بروق داخلية، وسحب لا تخذلها الدموع. وفي هذا البرق يكون الوطن وحده هو الحاضر، وتقبع الغربة في الظلِّ، فقلما تقرأ قصيدة لها لا تضيء، ولا تحمل برقاً جنوبياً يستحضر الطفولة والحب والذكريات، وقتها ينتفي زمن الغربة ويتلاشى، فبرق الذكريات حانٍ على شعاب النفس يغذي فيها القدرة غلى النمو الوجداني الخصيب. لن تجد لعلا بدر الدين الهزيم قصيدة، ولا حلمٌ جنوبيٌ ينمو في حناياها. فالغيمة جنوبية رغم هجرتها، وهجرة الغيوم تؤكد الجنوب بمعناه الإخصابي، ومع ذلك فهل تـُؤَنْسِنُ علا بدر الدين الغيمةَ وتصبح صديقتها الأثيرة رغم دموع الوداع الهاطلة من جفون الغيمة ومن جفون علا بدر الدين في آن. تقول في حوارها مع غيمة مهاجرة:/ يا غيمةَ اللهِ أحبُّ مثلكِ السفرْ/ وأنتِ يا صديقتي/ تراسلين الأرض بالبروق والمطرْ/ أما أنا/ فأدمعي تهطل يا صديقتي فوقَ حجرْ/. إن هذا الحنين الساطع في الكلمات تنزُّ منه كآبةٌ موروثة من تواريخ السفر اللبناني المترنِّح فوق الموج حاملاً الأجساد وتاركاً القلوب عند الشاطئ.
علا بدر الدين تعتقد أن حب الجنوب ينقذها من الانتهاء، إنها لا تستطيع أن تنتهي لآن الجنوب في شعرها ليس جغرافية، ولها حدود، الجنوب في شعرها انتماء وتاريخ وأرضٌ مخضَّبةٌ بالتاريخ والوعي والفداء والحب الذي لايبرح كل تفاصيل هذا الجنوب القاسي بحبه وعناده وحضوره في الحس والوجدان والسفر باتجاه المطلق. وعلا بدر الدين ترى الجنوب بوضوح أكثر كلما ابتعدت عنه، إنها تراه في كل شيء، لأنه ليس جغرافية فحسب. إنه يحضر بصوفية غامرة في شعرها تنسيك أنك أمام كائنات أخرى تشدُّك للانجذاب إليها، إذ كل شيء جنوب، ليس سوى جنوب. إنها باستمرار تنهل من فيض الأمل الجنوبي الذي لا ينتهي، إنه يهبها معنى أن تكون. وحين يكون الوطن معنى أن تكون يكون أديم التراب “من هذه الأجساد” كما يقول المعري. ولذا ترى علا بدر الدين الأرض رؤية غير محايدة. إن الجنوب رُفاتُ أهلها الذين تحبهم. ومن هذا الرفات نُسِجتْ كينونتُها. ولذا يغلو هذا الرفاتُ إلى حدِّ القداسة. والإنسان:/ إن خان معنى أن يكون/فكيف يمكن أن يكون/ كما يقول الشاعر الملهم بدر شاكر السياب. وحين يكون الوطن في الوجدان حاضراً إلى حالة الفيض تصبح الكلمات قطعاً حميمة من الذات، ويصبح الشعر رسالة.
كانت بكل تواضع العارفين تطلب مني أن أتدخل فيما تكتب، وحين كنت أحاول كنت أنهزم باستمرار لأن الأشعة المتلألئة في كلماتها كانت قِطَعاً من وجدانها لا تسمح لي بالتدخل لفرادة شعورها وكثافة تهطاله الوجداني المتسرب في لغة شعرية تقرب من سجع الحمام وهديل اليمام، ومع ذلك كانت بتواضع الكبار تصرُّ على إشرافي على نتاجها، رغم أنها تملك موهبة شعرية متقدمة. كان في داخلها لهبٌ لا يكفُّ عن تشكيل مداه بحرية وغنائية حتى لكأنك في مجلس حسينيٍّ لا تستطيع فيه أن تفرِّقَ بين الدمعة والومضة، وحين يستيقظ القلب تتلاشى كل الحجب التي تحاول تغطية سناه. كان عطاؤهاغزيراً باستمرار وكأنها تَعُبُّ من ينبوع لا ينضب، كانت علا بدر الدين الهزيم تعيد تشكيل غمامها الشعري عبر برق جنوبي لمعانه يخطف المشاعر إلى حيث تريد هي. وكان برق غمامها يخصب بلهيبه مطر شعرها. كان كل تدخلٍ في إعادة تشكيل هذا اللهب يقترب من فعل الخيانة، ولذلك كنت أهمس لها: أعذريني من التدخل لأن شعرك أرضٌ جنوبية لا تسمح لأحد باحتلالها. كنت أحسُّ وأنا أقرأ هديلَ غربةِ هذه الشاعرة الجنوبية أنها تٌمسِكُ بالمكان، ولا تفلته من يديها. لم أكن أقدر على الخلاص من بروقها التي تضيء ما أعتمَ من الأرواح المظلمة. إن عطش الأرواح يحتاج إلى عواصف وبروق، وكل شعر لا يغامر بين العواصف والبروق سيكون رماداً. وكنت كلما قرأتها أشعر بخصوصية لا تنتمي إلاّ لها، وهذا هو الشعر الذي عليه أن لا يتكرر في الآخرين، فإذا تكرر خرج من الزمن، لأن الزمن لايتكرر أبداً، إن نهر الحياة يجري، وأنت لا تستطيع فيه أن تدخل في نفس الماء، إن الصيرورة قانون لا يمكن نسخه. وكما أنك لا تستطيع أن تدخل في مياه النهر ذاتها مرتين، فكذلك الشعر تنتفي عنه صفة الشعر إذا تكرر مرتين خارج خصوصية لا تقبل التكرار ولا الوقوف. الشعر المتكرر تخرج منه قوة السحر التي تمنحه الحضور المدهش ببروقه وعواصفه، والتي يتكرر لمعانها بموتها وهي تجتاح ظلموت هذا الكون. ورغم نفي التكرار إلا أن الماضي في شعر علا بدر الدين الهزيم هو تفسير لجدلية الاستمرار التي تصل الحاضر بالماضي، والماضي عند علا هو الجنة التي لا تزال تتمنى العودة إليها:/رُدَّ لي من وطني أغنيةً/ من أغاني “النبطية”/ رُدَّ لي سربَ السنونو/ عابراً أجواءَ عمري/ راحلاً لكنْ يعود/ رُدَّ أسرابَ الصبايا،/ وجرارُ الماء تيجانُ الرؤوس/ رُدَّ لي عرساً وأبياتَ “عتابا”/ من مراعي النبطية/ رّدَّ لي وهجَ التنانير القديمةْ/ نصطلي كنا عليها/. إن تكرار فعل “رُدَّ” بصيغة الأمر في هذا المقطع له دلالة وجدانية عالية وعابقة بحضور الماضي حتى كأنها لا ترى سواه في نهر عمرها الذي لا يتوقف عن الجريان.
في شعر علا بدر الدين الهزيم نشمُّ رائحة الأيام الجميلة، قراءة شعرها تجعلك تخطر في تلك المزارع الخضراء، حيث أسراب الطيور تقيم مهرجاناتها التي لا تنتهي، وتسمع سجع الحمام الذي يوقظ أعمق ما فيك من شجىً، وتسمع خرير الجداول وهي تقهقه حينا وتنتحب حيناً، وكأنها حكايا الأيام في مصائر الناس. في شعرها ترى النبطية وكأنها تردد أغاني سكينة المترعة بحزن التاريخ ولوعة الفراق. وتريك القرميد وقد أصبح منازل للعصافير. وترى اليمام المهاجر والعائد، وتغدو القرية بماضيها المنغرز في وجدان علا بدر الدين فردوساً مفقوداً، وهي تسكب حنينها للعودة إلى ذلك الزمن الزراعي الوارف المخضوضل، والمسكوب في شعرٍ يصوغ الكلمات لوحاتٍ خالدة فيها عبق الماضي ولوعة الحاضر. إن في شعرها رائحة التاريخ الذي يحمل وجد التاريخ وحرارة الإيمان بخوارقه.
سرُّ قوة شعر علا بدر الدين الهزيم ينبع من قدرتها على نقل وهْمِ الرؤيا إلى واقع شعري يغزو الزمن ويقتله ليقيم في الماضي، ولو نازفَ الجناح. وبهذا يحمل الشعر ضروباً من السحر لأنه قادر على إعادة خلط الأزمنة كما يشاء الساحر الرائي، وأعني الشاعر المقتدر. لذا كان الشعر أغنى تراث وجداني عرفته الإنسانية عبر تاريخها، منذ الزمن الرعوي إلى عصر الكومبيوتر. الماضي في شعر علا لا يتهدم، ويظل قائماً، تماماً كالجدار الذي يسقط ولكنه لا يزال جداراً. وهذا من أسرار الشعر الذي ينقل من حال إلى حال. وربما يوحي لك شعر علا بدر الدين الهزيم بأنين ذلك الناي الحزين الذي لا يزال يئن شوقاً للعودة إلى الغابة التي قصف منها، وإذا أردتَ أن تكثف غائية شعرها في جملة واحدة فإنك تقول: إن شعرها هو أنين نايِ روحها للعودة إلى النبطية ومرابع الجنوب الحالمة. هذه هي علا بدر الدين، إنها الناي المقصوف من غابته.تقول علا بدر الدين في قصيدتها ” أصوات من مدينة النسيان”: / إلى متى تئنُّ يا نايُ/وهل يسمعكَ القصبْ؟/ قُطِعْتَ من عابته/ ولم تزلْ تحنُّ للرجوع/تحنُّ للأصول/ لغابكَ الذي أعطاك هذا اللحنَ والأنين/ يا نايُ إنَّ فيَّ ما فيك من الأنين/ والحنين/ لقريةٍ أحبُّها/ أحبُّ أن أجمع من أزهارها قلادةْ/ لفارسي الجميل/ فآهِ يا نايُ أعرْني صوتك الحزين/ لأجمع الصدى/ لعل ذاك الفارس الجميل/ ما زال في الوادي يلمُّ حبنا القتيل/ أريد أن أسمع من جواده حمحمةَ الصهيل/ هذا شعر متقدم ومسكون بالرؤيا وبالماضي الجميل الذي ما زالت حوافر خيله تدقُّ على باب قلب علا بدر الدين.
جميلٌ أن يُشحَنَ الشعرُ بالبرق، وأن يمسَّ النفس ويضيئها، وهو يكرر برقه بأجمل الرؤى التي تملأ الذات جمالاً، لأنه مصنوعٌ من نفس ما صنع منه البرق، كلاهما ضوء وكلاهما يهجم على الظلام ويلغيه، وإذا كان الجمال هو الذي يهب الحياة معنى إشراقياً، فإن التزام الشعر بخلق الجمال الكوني لايقلُّ حضوراً عن الشعر الملتزم بقضايا الإنسان الكبرى، وبهذا المعنى يغدو الجمال التزاماً، وهذا ما مارسته علا بدر الدين الهزيم في شعرها المشغوف بقيم الجمال. وبمقدار ما يحمل الشعر الجيد من البروق، فإنه مَسُوق بريح لا تعرف القرار، وهذه الريح تحليقها يكون إلى العمق باستمرار. إن أعلى تخوم النفس الإنسانية يكون في أعماقها، وكلما غاص الشاعر في أقاليمه الجوَّانية أصبح أقرب إلى آلهة الشعر العليا، لأنه يكون على صلة وثقى بحقائق الكون الكبرى، ويكون وهو غائص في عمق ذاته ساعياً للوصول إلى القبة الكونية مخترقاً قشرة الزمن، ومعانقاً روح الوجود.
وتقسو الأمنيات في شعر علا بدر الدين حتى البكاء، وهذا منوط بغربةٍ داخلية وغربة خارجية في آن، ولا تستطيع مكابرتُها إخفاءَ قساوة هاتيْن الغربتين، لأنهما تَنِزّان من كل ما كتبت، إن غربتها وهبتها ألماً نبيلاً جعلها تعشق غربتها الداكنة بمقدار ما آلمتْها، وإذا كان الألم أندَرَ صفات الروح فإنه يكون في الموهبة وقوداً لها، وكلما نمت الروح تحت ظلال الألم كان ثمرها غالياً وأطيبَ مذاقاً، وأصبحت تنتج بألمها شعراً أخّاذاً حتى ولو كانت النفسُ غائصة في ظلام الألم، لقد أرّخ بودلير الشاعر الفرنسي المعروف خلود شعره بألمه، واستطاع أن يجعل للظلام جماله الخارق، يقول بودلير: “لكَمْ كنت تسعدُني أيها الليلُ لولا نجومُك التي يتكلم ضياؤها لغةً مفهومة”. غربة علا بدر الدين الهزيم نابعةً من حسينيةٍ تاريخية تستدرُّ الدمعَ والنُبْلَ معاً، ومن غربة جعلتها باستمرار على موانئ العالم ومطاراته، وكأنها منذورةٌ لتتعرف على الدنيا بغربتيْها، وتعلق قلبها على بوّابات العالم السبع بحثاً عن الجنوب الذي هو ما تبقى لها ليؤنسَها في قساوة الأمنيات الحرون التي تدخل النفسَ وتأبى مغادرتَها. وحين تهاجر دروبُ العودة أيضاً يطبق الحزن أكثر على وجدان صاحبة “هديل الغربة”:/ كلُّ الدروب هاجرتْ/ ما أوحشَ الدروبَ إذ تهاجرْ/.
لقد لبست صبرها بإيمان العائد إلى الجنوب، ولا بد من “النبطية” وإن طال السفر، وكان حران الأمنيات في وجدانها لا يجد مسارب له إلا عبر هذا الشعر الجميل الذي يجول “في النفْس مكان النفَسِ”. جميل أن يستغني الإنسان عن جواز سفره بقسمات وجهه ولهجته وهواه. كانت علا بدر الدين الهزيم تمشي في بلاد الغربة، وكأنَّ لا تربة لقدميها سوى تربة الجنوب، وكان السفر محطة باستمرار في حياتها، وليس إقامة. وقد يكون السفر على سعته ورحابة مداه سجناً للنفوس التي تؤمن بوثنيّة التراب، حتى لكأن الوطن دِين لا تُنسَخُ عبادتُه. أوَلم يعشق المصطفى مكة؟ أوَلم يبكِ يوم أخرجَه أهلها منها؟: ” اللهُ يا مكةُ ما أطيبَ ريحَكِ … والله لولا أن أخرجني أهلُكِ ما خرجتُ أبدا”
إن تسرُّبَ الألم إلى شعر علا بدر الدين الهزيم لم يخنق صوتها العربيّ المقاوم، إنها تنتمي إلى ثقافةٍ مقاومِةٍ لايمكن أن ينسخها ألمٌ مستبدٌّ، وأنت تتفاجأ حين تقرأ لهذه الإنسانة الجنوبية التي حَتَّت الغربة قلبها، ومع ذلك ترى في شعرها تحدِّياً ولهباً عاصفاً لافحاً في وجوه الغزاة الذين دنّسوا تراب الوطن ودنّسوا مقدسات الأمة. وهذا ليس غريباً فالحزن الحسيني إرثٌ نابع من الشهادة، وهو متصل بكل فعل مقاوِمٍ منحاز للانتصار لقضية الإنسان الكبرى، ألا وهي الحرية. وما دام الإنسان يمتلك خواطر مقهورة فإن هذا يعني أنه يمتلك وقوداً وسلاحاً للثورة التي يجب أن تأتي، لأن القهر لا ينتظر:
فآه يا فرات/ أراك في الجنوب/ في أدمع النساء في الجرار/ في الغضب الساطع من بنادق الثوّار/ في “القاسمية”/ في “النبطية”/ في “صور” و”الخيام”/ فآهِ يا جنوب/ ما أجمل الموتَ على صدرك يا حبيبي/ والموت في الجنوب/ يعلِّمُ الناس على الحياة/
وهذا الإيمان مرتبط بفكرة المُخَلِّص الذي لا بد من أن يأتي، ومجيئه انتصار. وإيمان علا بدر الدين بالمخلص اتخذ بعديْن متلازميْن، البعد الأول حتمية الخلاص من كل ما يشوّهُ الحياة، والبعد الثاني تراث الجنوب المرتبط روحيا وفكريّاً بقيامة صاحب الزمان. وما تعنيه تلك القيامة في حياة البشر، وبهذا يغدو الإيمان بهذه الحتمية عنصراً مُغَذياً يهب النفس مناعة ضد الهبوط إلى الأدنى، ويملؤها بالثقة في استجابتها الإيجابية لما تعنيه هذه القيامة.
وعلا بدر الدين عربية الهوى والمنى أيضاً وعربية “الوجه واليد واللسان”، وعروبتها هنا تزيح التعصب عن كل ما يمنع وحدة هذه الأمة، وتبقى فلسطين في وجدان الشاعرة علا بدر الدين أيقونة الإنسانية الهادفة إلى السلام، ولكن بعد انتصارها على من سرقوها من أهلها، تقول علا:/ويظهر الحسين من جديد/لكي يصلي خلفه الثوار/ في المسجد الأقصى/وفي غزة والأغوار/ يا أيها الإمام أنت حاؤنا والباء/ وراءك القسّامُ عز الدين/ وأحمد الياسين/ ويشهر السيف صلاح الدين/ في جيشك الجرّار/ إن فلسطين لنا/ وسوف تبقى القبلة الأولى لنا/ وقبلة الإسراء/ ومؤتة تعطي يداً لجعفرَ الطيّار/ وخالد اليرموك/ لا بد يا جنوب/ أن تخلق العروبة الجديدة/ من هذه الأرض ومن/ بنادق الثوار/
علا بدر الدين لم تدع الزمن يحتفل بكآبتها، لقد سكبت روحها في شعر يؤمن بانتصار النور على الظلمة، وبانتصار الجمال على القبح وبانتصارالخير على الشر. فالشعر بهذا المعنى فتْكٌ بكل ما يسيء إلى نواميس الجمال والإبداع الخالقِ قيمَ الحياة، حتى لكأن الشعر نبوّة “ولو ضجَّتْ شيوخٌ ورهبانُ” كما يقول الشاعر القروي، وهذا الفتك يخرج إلى علنيته عبر الكلمات المختبئة في غابات الوعي واللاوعي القصِيّة، والتي لا تُسلِمُ حِرانها إلا لمن غمس الكلمة بدمه وراح يكتب قصته مع الحياة بتحدٍّ رافض لكل أشكال الهزيمة حتى ولو كان الموت نفسه نتيجة لها. ألم نخلق الخلود قهراً للموت نفسه!!، إن التحدّي هو الذي يحعلنا نحارب بالكلمة المؤمنة جيش الظلام. إن الإيمان بالشعر يعبِّرُ عن قوة الوجود، لأنه متصلٌ بمفهوم الحرية التي ليس لها حدود، فالحدود من صفات الحجَر، ” وما من حجرٍ ينطق بالوحي” كما يقول “هولدا دولِتِك”. وهنا نتساءل: هل الحجر الذي يجعل منه الإنسان إلهاً له مرتبط بتوْق الإنسان للتألُّه. لقد حاول ذلك جدنا جلجامش فأخفق أمام قدَرية الآلهة المستأثرة بالأزلية، وجعْلِ الموت غاية الإنسان الطينيِّ في “أوروك” وغيرها، وحتى في سفينة نوح نفسها، والتي كانت هرباً من الموت إلى الموت، يومها كان الطوفان قصيدة الزمان على الأرض لإيصالها بالسماء، وكم كانت مؤلمةً نظرة جلجامش، وهو ينظر إلى الأفعى التي سرقت منه نبتة الحياة، ولم تُبقِ له عند حافة البئر الذي غاصت فيه سوى إهابها الفاني، لتحقق نبوءةَ”سيدوري” صاحبةِ الحانة التي نصحته فلم يستجب لنصائحها المفرطة في واقعيتها. “ويسأل شاماش: لماذا تحاول المستحيل؟ ويجيب جلجامش: إذا كان يجب ألاّ أفعل ذلك فلماذا خلقتَ في قلبي هذه الرغبةَ القلِقة؟”. في هذا الحوار الكوْني تتلخص مأساة الإنسان، بل وعظمته منذ كان.
لقد تمنّى القدِّيسون أن يسكنوا في الشعر فأخفقوا، أما مزامير داود فقد كانت جزءاً من نبوَّته. إن القديسين حاولوا قوْلبة الله كما يشاؤون فأخفقوا، لأن الجمال دائما أوسع من القالب وأبعد منه وأوسع من الجبّة أيضاً، وحين يكون القالب هو الغاية يموت الوحي وتنقطع الصلة بين الإنسان والمطلق،أي تصبح الحرية جثة لا نسمة حياة فيها. لقد آمنت علا بالشعر فتمردت على كل ماهو بالٍ وعتيق، ولا تخفق فيه إرادة التحرر. وتحررها لم يكن فوضوياً بل كان انحيازاً لكل ما هو جميل ينطق بإنسانية الإنسان خارج وثنية الحجر والجسد، فإذا كان “العالم الأكبر” قد انطوى فينا فكيف نفصل ذواتنا عن كونية الروح والجسد؟. لقد وهبت رياح الجنوب علا بدر الدين حلمَ حملِ الجنوب إلى أقاصي الكون والعودة إليه، وهكذا كانت غاية تقصِّيها هو التمركز في جنوبية الجنوب. إن أهمية مواسم الحصاد تكمن في الذهاب إلى البيدر لتجميع الوجود ونثره من جديد. وما المحطات الكثيرة والموانئ التي دخلت فيها علا بدر الدين الهزيم إلا صورة عن العودة إلى الجنوب، الجنوب الذي آمنت به مشيمة وكفناً في آن. فهل كانت علا بدر الدين تسير وراء رغبة جدها جلجامش، وفي رأيي أنها استطاعت بشعرها فعل ذلك، وسيبقى شعرها مسكوناً بذلك الدويِّ الذي لا يتلاشى. وستكون بشعرها الجميل من البشر الذين يولدون بعد مماتهم كما يقول “فريدريك نيتشه”. إن في شعرها الجميل طوافاً لا ينتهي في أودية المعارف الروحية.
عدد الزوار:2054

إضافة تعليق