أنشطة ثقافية وإبداع أدبي

ندوة الجامعة اللّبنانيّة بعنوان “بين الورق والرّقم حلّقت شهرزاد” للقاصّة الدكتورة درّيّة فرحات

نشاطات ثقافيّة

ندوة الجامعة اللّبنانيّة بعنوان “بين الورق والرّقم حلّقت شهرزاد”

 للقاصّة الدكتورة درّيّة فرحات

لتحميل البحث بصيغة PDF

نظّم قسم اللّغة العربيّة وآدابها في عمادة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللّبنانيّة بتاريخ 16 أيار 2024 ندوة بعنوان “بين الورق والرّقم حلّقت شهرزاد”، للقاصّة الدكتورة درّيّة فرحات، وما قدمه الطّالبان رامي عيد ومنيرة الحجّار حولها من فيديوهات رقميّة، برعاية عميدة الكلية البروفسور سهى الصّمد وحضور عدد من الاساتذة والطّلاب.

دكتور جورج حداد

بالنّشيدين الوطنيّ، والجامعة اللّبنانية استهلّت النّدوة، ثم ألقى منسّق ماستر اللّغة العربيّة الدّكتور جورج إبراهيم حدّاد كلمة رحب فيها بالحضور، وأشاد ب”أهمية العمل”، وقال:”أنّ بينَ” احكي يا شهرزاد” الورقيّة والرّقميّة إبداعٌ تخطّى الحدودَ الزّمانيّةَ والمكانيةَ، حتّى أصبحَتْ شهرزادُ ملكةً تخترقُ جدرانَ الصّمتِ محلّقةً بينَ الورقِ والرّقمِ لتعلنَ تمرّدَها وتخترقَ بصوتِها كلَّ القلوبِ النّائمةِ”.

وشكر الدّكتورة درّيّة فرحات لما قدمته من شهرزاد بين الورق والرّقم، “فلولا شهرزاد الورقيّة، ما وُلدت شهرزادُ الرّقميّة”، كما شّكر الطّالبَين رامي عيد ومنيرة الحجّار لما قدّماه في شهرزاد الرّقميّة، وأثنى على دعم العميدة الدائم” للتحليقِ في رحاب الأدب”، والإعلاميّ محمّد عمرو لنقله النّدوة مباشرة على صفحة زمان الأخبار، والطلّاب المتمرّدين على “إثباتِ حضورِ الأدبِ رقميًّا ليحاكي التطوّرَ والتكنولوجيا”.

عميدة كليّة الآداب د. سهى الصّمد

ثم ألقت العميدة الصّمد كلمة أثنت فيها على نشاط الدّكتور حداد في قسم اللّغة العربيّة وأعمال الدكتورة فرحات، وأعمال الطّلّاب، و”مشجّعة هذه اللّقاءات الأدبيّة الّتي تدعم الكتابة، والنّقد والإبداع ومتابعة كلّ جديد إذ إنّ الجامعة اللّبنانيّة كانت ولا تزال حاضنة لهذه المواهب”، مقدّمة كلمات شكر للقائمين على هذا النّشاط. ثم عُرض فيديو رقميّ تعريفيّ لمجموعة “احكي يا شهرزاد” من إعداد وأداء الطّالبة منيرة جهاد الحجّار.

دكتورة دريّة فرحات

بعد عرض الفيديو كانت مداخلة الدّكتورة فرحات التي أثنت فيها على”هذا الاحتفاء في مجموعتها القصصيّة “احكي يا شهرزاد”، وانتقلت إلى الحديث عن “الأدب الوجيز، وتحديدًا القصّة الوجيزة (القصيرة جدًّا) على أنّها تعتمد بعض التّقنيّات وأهمّها التّكثيف، لأنّ طبيعة الحياة قد تتطلّب منّا التّوجّه نحو الوجازة”، وتحدّثت عن “احكي يا شهرزاد” أنّ شهرزاد قيمتها المرأة وهي قيمة أساسيّة في مجموعتها القصصيّة، وربما هذا الاسم أعطى الحياة للمرأة من خلال الحكي، وهكذا كانت “احكي يا شهرزاد”.

وكان للمشاركَين في المجموعة الرّقميّة، رامي نعمه عيد ومنيرة جهاد الحجّار، كلمة قدّمتها الطّالبة منيرة الحجّار أعلنت من خلالها أنّ “التّوجّه الرّقمي كان محاولة متواضعة للحفاظ على اللّغة العربيّة في ظلّ سيطرة التّكنولوجيا، ومنافسة اللّغات الأخرى، وأنّ العمل الرّقميّ يتكامل بين إعداد، وأداء، ولغة، وتنسيق، وهو يتطلّب رموزًا إيحائيّة كالإبداع الورقيّ”.

تلا ذلك توزيع شهادات تكريميّة من قبل العميدة ومنسّق الماستر، وتوزيع المجموعة القصصيّة على الحضور من قبل الدّكتورة فرحات.

تخلّل اللّقاء قراءات نقديّة، يرافقها فيديوهات رقميّة للقصص المختارة من المجموعة الرّقميّة الّتي طبّقها الطّالبان منيرة الحجّار ورامي عيد، وكانت القراءات النّقديّة من قبل طلّاب الماستر2، أسعد ضامن، بتول حمادة، تمارا شلهوب، مريم سرور، ليندا حجازي

 

أثر التّكنولوجيا على العلاقات الإنسانيّة من خلال قصّة “تكنولوجيا” للقاصّة درّيّة فرحات

أسعد كمال ضامن

ولدت شهرزاد الرّقميّة منذ سنة، أمّا شهرزاد المحكيّة فولدت منذ أزلٍ يوازي الحكايات الشّعبيّة من القصص والمواعظ الأدبيّة، ولدت على حافّة التّاريخ، تحت سفح جبل، وهي اليوم على قمّته. مشت شهرزاد على خطّ الزّمن ورافقت كلّ عصر بعصره؛ من التّرجمات المختلفة إلى تداخُلِها مع جميع الفنون، وقفت على خشبة المسرح وأطلّت عبر شاشات السّينما والتّلفزيون، وهي اليوم تسبح في فضاء العالم الافتراضيّ، عالم التّطبيقات والتّفاعلات الإنسانيّة المقنّعة، حيث تفوّقت فيه السّيّئات على الحسنات، وتفوّق سوء الاستخدام على حُسنه. وخاصّة في عالمنا العربيّ الّذي ينهش ما يقدّمه الغرب بشراهة، ويتبعه بعيون أصابها العمى.

تبدأ القصّة الوجيزة من كتاب “احكي يا شهرزاد” تحت عنوان “تكنولوجيا”، بالفعل الماضي” أحبّها…”  نجد الـ “هو” الغائب الذي أحبّ في الماضي والذي علّق الـ”هي” بماضيه وسجنها خلف ثلاثة قضبان تمثّلت ورقيًّا بثلاث نقاط متتالية، علّقها بوعد مقدّس، علّقها بالارتباط، لكنّه علق هو في مكان آخر في عالم التّكنولوجيا، وفي عالم البحث الذي لا ينتهي. نسأل هنا هل شُغِلَ شهريار بمتابعة أخبار وقصص الكون عبر الشّاشة الذّكيّة وتلهّى عن سماع قصص شهرزاد اللّيليّة المباشرة؟ هل خطفته التّكنولوجيا إلى عوالم من الأبحاث الّتي لا تنتهي؟ ما هو هذا البحث المهمّ الّذي شغله طوال هذه المدّة؟ لقد بحث غلغامش عن سرّ الخلود متنقّلًا بين الجبال والغابات لسنين عديدة، ولم يجد مبتغاه، وشهريارنا الحديث قابع في مكانه، متسمّر على شاشة صغيرة يدور في العوالم الافتراضيّة ويحقّق أحلامه وأمانيه. ما هي تلك الأحلام؟ وما كانت أمانيه؟ هل كانت عِلمًا ليحقّق عَملًا، أم كانت  بحثًا في فراغ لم يحصل منه إلّا على ضياع الوقت ومرور الزّمن، ليخسر حلمه الورديّ، وليخسر أنيسته شهرزاد المُحدثة. لقد صاغت الكاتبة  قصّتها مستعملةً الفعل الماضي الّذي يتناقض مع العنوان الرّئيس “تكنولوجيا” فالتّكنولوجيا ترمز إلى المستقبل والتّطور والتّقدم، أمّا في هذه القصّة فقد كانت التّكنولوجيا سببًا في تفكّك العلاقات الإنسانيّة وتجمّدها في الماضي. لقد أظهرت الكاتبة التّكنولوجيا كوحشٍ قاتل ببراثن مسنونة قضى على قدسيّة العلاقات والأحلام الورديّة، فلا رائحة ذكيّة تُخرجها تلك الآلات ولا عطر يفوح منه بصيص أمل؛ إنّه تحذير جاء بصيغة الماضي ليعلن وفاة المستقبل.

أمّا في مقدّمة شهرزاد الرّقميّة في قصّة تكنولوجيا، فنجد أنّ تلك الآلة الإلكترونيّة الدائريّة تبدو كدوّامةٍ تخفي أهمّ الكلمات وتساعد على شرخ العلاقات الإنسانيّة، إذ محت كلمة “وعدها”. وقد ظهر ظلّ شهرزاد مطعونًا منذ البداية  بخطوط سوداء خرجت من رأسها داخل سجن يشبه القلب الأزرق، يلفّه البرد والجفاف. وظهر شهريارنا الحديث على مكتب أمام شاشة الكمبيوتر، تحيط به الخطوط الّتي تشبه إلى حدٍّ ما الذّاكرات الإلكترونيّة الّتي تكمن في طيّاتها ذاكرة الإنسانيّة، وخلفه بعض الأرقام الّتي تشبه “كودات” السّلع، وهي تعكس النّظرة الجديدة لإنسان هذا العصر الّذي سيطرت عليه الآلة حتّى أصبحت هي الّتي تتحكّم به، وهو تابِع لها كسلعة على رفوف الاستهلاك، يليها ثلاثة ظلال عموديّة فوق كلّ شيء داخل الصّورة كأنياب تأكل الشّاشة وما يحتويها. في شهرزاد الرّقميّة تمرّ الأيّام بدقّات قلب متسارع لتعلن الخسارة والرّحيل، تتشرذم كلمة حلم وتتساقط الآلات الإلكترونيّة لتصنع من جديد دوّامة البداية باللّون الأسود الّذي يشبه الثّقب الأسود في فضاء واسع يبلع ما يدور حوله، ويمحو كلّ شيء.

قد لا يختلف التّأويل الورقيّ عن التّأويل الرّقمي في توجيه القارىء نحو خطر التّكنولوجيا، إلّا أنّ رائحة الموت والتّفكك والانكسار قد ظهرت جميعها بوضوح في العمل الرّقمي، فالحضور والغياب في اختيار الكلمات، وثنائيّة ألوانها بين الحياة والموت، ” الأخضر والأحمر” وتحريكها، وتحريك الصّور بعيدًا من المعاني المقصودة، حيث يصبح البرنامج مساعدًا في إنتاج المعنى، وهنا نؤكّد السّيطرة الجزئية من عالم التّكنولوجيا على خيارات الإنسان، إذ نبقى ضمن محدوديّة الخيارات التي تقدّمها البرامج والتّطبيقات. وكلّ ذلك يوضّح أنّنا أصبحنا أسرى للتّكنولوجيا، وكلّ شهريار هو أنتَ، وكلّ شهرزاد هي أنتِ.

 

قراءة نقديّة في قصّة عرس شهرزاد الجديد

بتول حمادة

عرس شهرزاد الجديد قصةٌّ وجيزةٌ للقاصّة الدكتورة درية فرحات، تحكي قصّة واحدة من الشّهرزادات الّتي وظّفتها الكاتبة لاستخراج القيم الاجتماعيّة العليا عبر تسليط الضّوء على الآفات وتعريتها أمام القارئ، وقد تمكّنت من إيصال رسالتها عبر الوجازة؛ لأنّ فرحات ترى حاجةً لهذا التّعبير الوجيز حتّى يساير معطيات العصر الجديد.

يشير العنوان بداية إلى مراحل تطوّر شهرزاد من خلال لفظ “الجديد”، فهذا دليل على وجود عرس قديم لها، أي أنّها تشهد تطوّرًا، برز في أهداف الارتباط وغاياته، فبعد أن كانت العروس تُقدِم على هذه الخطوة بهدف الاستقرار دون الاكتراث إلى شكل العريس وصورة عرسها لأنّ كلّ ما ترغب به كان الحب والتفاهم مع شريك حياتها، إلّا أنّ الكاتبة توضح التّجديد الّذي طرأ على مفاهيم شهرزاد القديمة، الّتي باتت تغريها المظاهر وتهمّها الكماليّات دون النّظر إلى نواة الأشياء والأحداث، لذلك نجد في ختام الوجيزة مفارقة تشير إلى تكسّر الصّورة الّتي رسمتها شهرزاد وأعدّت كل تفاصيلها حتّى ينبهر بها جميع من حضر عرسها الأسطوريّ، وكأنّ من ستشاركه بقيّة حياتها هم الحضور لا الزّوج، هو نفسه الّذي بتنا نجده يتفاخر بعروسه الّتي تبني بيتها خارج منزلها.

تتّسم الأعمال الرّقميّة ببلاغة التّكثيف، وهي تعدّ مشهدية تلاحمت فيها الهندسة البصريّة والطّباعيّة والصّوتيّة لتثير دهشة القارئ، لذلك تناسب ترجمة القصّة الوجيزة إلى فيديو رقمي، إلّا أنّها لم تكن ترجمة موازية، لأنّ النّصّ في العمل الرّقميّ مفتوح يُبنى على الرّموز والإشارات الّتي تحتاج إلى تأويل، ومع مرافقة الموسيقى له، يتمّ شحنه بطاقة فنّيّة كثيفة.

نلحظ في العمل الرّقميّ استخدام اللّون الزّهري الّذي يشير إلى شهرزاد الأنثى والحلم الّذي تسعى إلى بلوغه: يوم العرس، كذلك تلاءم استخدام اللّون الأسود في مشهدين بارزين؛ المشهد الأوّل لرقصة العروسين برز بلون أسودٍ ممزوج بالرّمادي، وهذا دليل على انعدام الثّبات والوضوح، في حين أنّ العروسين في نهاية الفيديو ظهرا بلون أسود داكن واضح، وفي ذلك ترجمة لوضوح الصّورة وتجلّيها من زيف المشاعر. أمّا فيما يتعلّق بالمشهد النّهائيّ، فقد جاء ترجمة مثاليّة للمفارقة الّتي وردت في نهاية القصّة الورقيّة، عندما سقطت كرة زجاجيّة في مياه ساكنة حوّلت سكينتها إلى اضطراب.

كذلك نجد في العمل الرّقميّ تفاعلًا عبر الموسيقى الهادئة الّتي تعكس أجواء الفرح في الأعراس، كما عبر استخدام صورة الساعات الّتي تدلّ على أهمّيّة الوقت في تكشّف الحقائق وجلاء أقنعة الكذب. فضلًا عن ذلك نلحظ انتقاء الأفعال غالبًا من النّص الورقي، وإدخالها في الفيديو بتقنيات تشوّق المتلقّي، وهو ما تجلّى عند إدراج الكلمة الأخيرة “العروسين” في المشهد الأخير، حيث جاءت منسجمة مع لحظة الانفصال، فبعد أن ظهرت بإطار كلمة واحدة، ما لبثتْ أن تحوّلت إلى نسختين تبتعدان إلى جهتي الشاشة يمينًا ويسارًا مع سقوط الكرة الزّجاجيّة في المياه.

يتمكّن متلقّي العمل الورقيّ والرّقمي من استقاء القيمة الاجتماعيّة الّتي ضمّنتها الكاتبة في القصّة الوجيزة “عرس شهرزاد الجديد”، لمواجهة الإبادة الجماعيّة والرّوحيّة والفكريّة الّتي تجتاح ثقافتنا، وما آلت إليه أمور العروسين كانت متوقّعة منذ البداية؛ إذ أنّ الارتباط كان مفكّكًا من اللّحظة الأولى للعرس الاسطوري، لأنّ الحضور وعيون النّاظرين وثنائهم كان الطّرف الآخر في هذا الارتباط.

 

احكي يا شهرزاد: “أحاديث عمر”

تمارا شلهوب جاد

 

من “شهرزاد” ألفيّة ليالي الملاح التي وسمت تاريخنا العربيّ الأدبيّ بوشوم أساطير أصيلة نطقت بها ابنة الوزير، لتشتري بتأزّم عقدة كلّ منها، كلّ ليلة، يومًا ماسيًّا آخر تحياه على حدّ سيف عقدة شهريار من خيانة حوّاء؛ ألفيّة تفتّقت عنها أقاصيص ترفل بوشاح الإبهار والسّحر والمغامرات والحبّ، إلى “شهرزاد” الألفيّة الثّانية التي، سكتت عن القصّ عمرًا، غائرة في دهاليز البحث عن جماليّات السّرد، غارقة في يمّ النّقد الأدبيّ للشّعر والنّثر، غائصة على درر التّعليم طرائق ومناهج، وكأنّي بها تبحث عن ذاتها بين دفّات الكتب، قارئة وباحثة وناقدة، وإذا بها بعد ثلاثة عقود ونيّف، تجد ضالّتها، كما خيميائي “كويلو”، تحت قدميها، في لبّ حياتها، بين ثنايا ذكرياتها، في كتب عمرها.

الكاتبة دريّة فرحات فاضت بالكلام المباح، في مجموعة قصصيّة سطّرت حكاياتها، ووطنيّاتها. قصص، اختزلت حياتها، حتّى ليتبدّى للقارئ الذي يعرفها، أثر جرح الجنوب الغائر في عمرها، إذ تجلّى أبهى ما تجلّى مع العجوزين اللّذين حافظا على مقدّسات وحيدهما بأصالة غبارها، ودفء تفاصيلها، ودقائق صغائرها، تُصبّرهما على ويلات اجتياح العدو في أوائل الثّمانينات، فإذا بالمسلّحين الغاشمين يدخلون حرم ذكرياتهما، ويدنّسون أغلى ما يملكان: “شرف الغالي الغائب”، ويقضون على بواقي الأمل في الوطن بقتل العجوزين رمز الصّمود والإباء والكرامة.

كذلك يتوهّج نبض الجنوب في قلب “درّتنا” في قصّة الطّفل الجنوبيّ الذي صار، بدفاعه عن حقّه في الحياة عبر بيع الحلوى، رمزًا للبطولة بالفعل، ومجابهة العدوّ المسلّح بقامته الطّفوليّة الصّغيرة، وصوته الصّارخ البريء، ولثغته المحبّبة، لا بالقول كما كان يفعل الزّعماء الكبار قامة، الصّغار كرامة، وما زالوا…

أمّا ذروة الانتماء الجنوبيّ، وقمّة التّضحية الحقيقيّة، فتتبلور في القصة القصيرة جدًّا “بناء”، التي أبدع الزّميلان رامي ومنيرة في إنطاق خرس ورقها، صرخة رقميّة مدوّية، إذ هدم قصف العدوّ بناء البطل حجرًا، وأحلامًا، وبشرًا. وقد أشار زميلانا إلى الحجر في رسوم حجارة أشبه بالحصى يمسك بها صاحب الدّار، يتأمّلها، وتتناهى إلى ذاكرته أحداث حياته التي اختصر هذا “البناء” مراحلها، من ولادة ابنه، فدخوله المدرسة، فتخرّجه ونيله الشّهادة، إلى تسلّمه عمله المرموق… ذكريات وتفاصيل، أفصح عنها زميلانا بصور معبّرة، ابتدأت بصورة الرّجل الحاني على حجارة بيته، وقد قصمت قذائف العدوّ الظّاهرة على شكل طائرات، ظهر حياته، مع صور الكتب التي تشكّل هيكل البيت، وكأنّي بهما يفصحان عمّا سكتت عنه الكاتبة بأنّ العلم هو السّبيل الأوحد لبناء الأوطان، قبل أن يتبادر لنا الفينيق، رمز الانبعاث الجديد، وطير الحمام رمز السّلام عقب الشّهادة، وغصن الزّيتون أحد أهمّ رموز فلسطين الحبيبة، والحياة عقب الموت، إثر تبلّغ الوالد من خلف بحار المقاومة التي جسّدها زميلانا برسم سفينة تمخر الأمواج متّجهة صوب الوالد، (إذ تبلّغ الوالد) نبأ استشهاد ابنه على طريق القدس، فشمخت هامته التي حاول أن يحنيها قصف العدوّ، فخرًا واعتزازًا حقيقيًّا، لا بشهادة دنيويّة عليا على طريق العلم، بل بشهادة مقاومة مقدّسة، شريفة، على طريق القدس.

والغائص على درر الكاتبة  في شهرزاديّاتها الوطنيّة، لواجد فيها قبسًا من أملها الدّائم في نهضة وطنيّة تصبو إليها نفس الكاتبة، وتتمثّل في قصّة “أمل الأرض” التي حاول العدوّ تدنيسها، وتبويرها، وتعقيرها، وتقعيرها، فبَكَتْها الزّوجة التي فقدت كلّ أمل في إحيائها من جديد، بينما تركّزت عينا الزّوج، لا تحيدان، عن نبتة يانعة خضراء، بارقة انبعاث جديد، لم تنجح سنوات اليأس والسّراب الطّويلة في إطفاء شرارته، فيترك عكّاز عجزه، وينسى شيخوخة سنواته، ويثب نحو ريان الأمل الأخضر الباقي في الأرض والرّوح.

كذلك لا يخفى على القارئ القارئ ذكاء الكاتبة في تقمّصها شخصيّة شهرزاد، لا من باب استضعافها كإحدى حظوات الملك شهريار، إنّما احتفاء بها، أنثى مكتملة الأنوثة، مكتملة العقل، أنموذجًا للفطنة وحسن التّدبير والتّملّص من براثن الذّكورة الباطشة الغاشمة. “احكي يا شهرزاد” استحضار لشهرزاد الماضي بحنكة أنوثتها، وحكمة تفكيرها، وليونة تصرّفاتها، لتتّشح بجسد وروح شهرزاد الحاضر، بثقافتها، وانطلاقها، وحريّتها، وما الأقوال المأثورة التي تسم بها “درّتنا” باب كلّ فصل من فصول مجموعتها، سوى تأكيد على إصرارها على دعم المرأة العربيّة التي حاول شهريار العقد النّفسيّة، وشهريار التّخلّف، وشهريار العنصريّة تحطيمها إذ تقول الكاتبة على لسان “سيمون دي بوفوار”: إنّنا نحبس المرأة في المطبخ أو في المخدع، وبعد ذلك، نُدهش إذ نرى أفقها محدودًا؛ ونقصّ جناحيها، ثمّ نشكو من أنّها لا تعرف التّحليق!”.

 

قراءة في القصّة القصيرة جدًّا: بعنوان “عُمر”

مريم محمود سرور  

 

النّصّ: عُمر

هل تُسأل المرأة عن عمرها؟

عمرُها بعمر الورود والشّباب… عشرون

عمرها بعمر النّضج والخبرة… ثمانون

عمرها بحساب السنّين… أربعون

عمرٌ يختصر الحياة…

  • مقدّمة

قراءة في قصّة عمر من مجموعة “احكي يا شهرزاد” القصصيّة للدّكتورة دريّة فرحات. كتاب صادر عن دار الأمير، بيروت 2019. والكتاب يضمّ 34 قصّة قصيرة جدًّا. في هذه المجموعة القصصيّة تتجلّى رؤية الكاتبة وموقفها من قضايا المجتمع، حول المرأة والوطن، تُعبّر عن فكر إنساني يؤشّر إلى ثقافة الكاتبة الواسعة وحسّها النقدي، والقصّة الرّقميّة أداء وإعداد: منيرة الحجّار.

وشهرزاد هي المرأة التي استطاعت أن توظّف الحكاية لحماية نفسها وبني جنسها من الملك شهريار، فتتبدّى صفات هذه الشخصيّة بوضوح وذلك بفعل الرّمزيّة التّراثيّة والمعنى العميق لهذه الشّخصيّة. أمّا شهرزاد المعاصرة فتطلُب منها القاصّة أن تحكي حكايات وطنها وأن ترقى بها إلى مستوى إنساني، وأن تغدو حياتها مُلك يديها، فتعيشها كما تريد(زراقط، 2020، فقرة1).

2-  العنوان

أوّل ما يشدّنا إلى قراءة هذه القصّة هو العنوان “عُمر” الذي أثار فينا تساؤلات لنبحث في دلالاته، وإيحاءاته، هل هو عُمر الإنسان عامّةً؟ هل من عمرٍ مُحدّد؟ فهذا العنوان هو أحد المفاتيح الرئيسة لاكتشاف النّصّ وتفسير محمولاته الفنيّة والدّلاليّة (المناصرة، 2015، ص10).

ومن جهة الحجم، فقد اقتصر على كلمةٍ واحدة، كلمة هي خلاصة القصّة وزبدتها، والقلب الذي تنبض من خلاله، وهو يحمل دلالاتٍ عميقةٍ عند التأمّل فيه من حيث الإيحاءات الواسعة التي تفضي إليها هذه اللّفظة “عُمر” في مستوى علاقتها بالثّقافة والوعي المتشكّلَين داخل المتلقّي، وما يحمله عند تحليله أو ترميزه في سياق الإيحاء والرّمز. فالعُمر هو الزّمن الذي مضى على الإنسان منذ ولادته، والّذي يسير بوتيرة التقدّم مرورًا بمراحل الشّباب، وسنّ النُّضج، وصولًا إلى التقدّم بالعُمر، فيطرح هذا العنوان تساؤلًا: ماذا يُمكن أن نتوقّع من هذه القصّة؟

3-  البداية

البداية في هذه القصّة، بالغة الأهميّة، لأنّها تُحدّد منذ البدء الحركة في القصّة، وهي ليست وصفيّة ساكنة، بل تبدأ بالسّؤال “هل تُسأل المرأة عن عُمرِها؟”.

يُثير هذا السّؤال حالةً من التّفكير والتّشكيك، ليأتي الرّفض، رفض الرّاوي لهذا الطّرح، وانعكاسه على رفض المتلقّي، وبالتّالي رفض المرأة إذ تطغى هنا لغة النّقد، وتصوير حالة المجتمع وهو العنصر الأساسي في هذه القصّة، وجاء هذا الطرح متوافقًا مع صور القصّة الرّقميّة، إذ تبدو على المرأة علامات الانزعاج والغضب، مصحوبةً بعلامة تعجُّب! وكأن العمر محصور بإطار السّنين، أو العُمر هو نظرة مجتمعيّة يُحدّد بها المرأة، موليًا الشّكل أهميّة دون النّظر إلى الخبرات والعطاء، لتأتي الإجابة مُعبّرة عن فكر القاصّة أنّ العمر “عمر يختصر الحياة”.

4-  الشّخصيّة

ترتبط الشّخصيّة بالحدَث ارتباطًا وثيقًا، وللشّخصيّة أبعادها المتعدّدة الجسميّة والنفسيّة والفكريّة والاجتماعيّة وما إلى ذلك (أحمد، لا.ت، ص12). إنّ محدوديّة المساحة النّصيّة للقصّة القصيرة جدًّا لا تتطلّب أكثر من شخصيّة فاعلة في هذه القصّة، وهذه الشخصيّة هي ذات الرّاوي، الّذي يتحاور مع ذاته حول: هل تُسأل المرأة عن عمرها؟ لتأتي الإجابات حمّالة مضامين فكريّة واجتماعيّة، وتأخذ أبعادًا أُخرى من خلال حرص الراوي على تمكيننا من زخّاتٍ من المعنى بين الفينة والأخرى، فلم تُعد هنا الهيمنة للجملة السَّرديّة بل إلى الحوار والوصف التّصويري للحالة الموصوفة:

“عمرها بعمر الورود والشّباب… عشرون

عمرها بعمر النُّضج والخبرة … ثمانون

عمرها بحساب السّنين… أربعون”.

5-  المتن النّصّي

وهو ما يُطلق عليه “النّسيج اللّغوي”، فيشمل الحوار والسّرد، فهو المتن النّصّي الذي يُجسّد الحدث ويشكّل الشّخصيّات، ويتنامى معها في اتّجاه تحقيق الأثر الكُلّي (أحمد، لا.ت، ص13-14).

فالحوار هنا مع الذّات، وقد جاء الفعل المضارع بصيغة المجهول “تُسأل”، فالسّائل غير محدَّد، وبما يفتح على تأويلاتٍ متعدّدةٍ تُمثّل أغلبيّة المجتمع الذي ترفضه القاصّة، فلا تقبل بهذا المنطق، حتّى “شهرزاد” والمرأة المعاصرة، ترفض هذا التّساؤل، فالحوار هنا حوار الذّوات داخل القاصّة، وهذا ما يعطي هذه القصّة أهميّة خاصّة، لاختيار لغة الإشارة والتّلويح بدلًا من المباشرة والتّصريح. وهذا ما حتّم على القاصّة أن تولي أهميّة كبرى للّغة ومستوياتها وقدرتها على التصوّر، بحيث جاءت اللّغة بالغة التّكثيف والتّركيز والاقتصار، بحيث أوحت كلّ لفظةٍ إلى المعنى المطلوب

“عشرون = عمر الشّباب”.

“ثمانون = عمر النّضج والخبرة”

أربعون = السنّ الذي يحمل رمزية لدى المرأة، بينما هو عمر العطاء، فكأنّ عمر المرأة كلّه عطاء.

6-  الزمان والمكان

يطغى على القصّة عنصر الزّمن، بدءًا من العنوان “عمر” إلى تحديد عمر المرأة، بدءًا من عمر الشّباب، وصولًا إلى الكهولة، مرورًا بسنّ الأربعين، ليصوّر حالة اجتماعيّة بقالب نقدي؛ فيتلاشى الزّمان أمام عطاء المرأة، ويغيب المكان المحدّد، ويغيب الحدث ويتوارى السّرد، فالمكان هنا وهناك، غير محدّد بإطار جغرافي معيّن، هو زمن العطاء في كلّ الأمكنة.

7-  الخاتمة

تميّزت هذه القصّة القصيرة جدًّا بقُصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثّف، بالإضافة إلى سمة التّلميح والاقتضاب، مع الميل إلى الحذف والإضمار، ولغةٍ تميل إلى الانزياح والصّورة والخيال (فرحات، 2022، فقرة 9).

فالنّهاية هنا هي لحظة التّنوير التي يكتمل بها الأثر، ويتشكّل المعنى، فعمر المرأة لا يحدّه زمان ولا سنوات بل هو “عمر يختصر الحياة” وهذا ما يُجسّد وعي القاصّة. حيث ظهرت أدواتها في القدرة على التجدّد والابتكار، وأن ترسم واقعًا محكمًا يستطيع كلّ منا أن يرى أن هذه القصص هي مرآة نرى أنفسنا فيها.

والجدير بالذكر هو أن الأدب الرقمي أو القصّة الرّقميّة الّتي أنتجتها الزّميلة منيرة الحجّار، إعدادًا وتقديمًا هي ثمرة التغيّرات التي طرأت على الأدب بدخول التكنولوجيا.

فقد جاء هذا العمل مُتقنًا متناسبًا مع القصّة بما فيه من الموسيقى والكتابة والفن البصري، وتوافق الشّحصيّة الأساسيّة، من حيث التصوير والتّعبير عن الحالة النّفسيّة، فهو يحمل الرؤية المعدّة تجاه عمليّة الإنتاج الأدبي والتلقّي. فنحن أمام ظاهرة أدبيّة تبثّ الروح بين السّطور، فتُصبح القصّة منتمية إلى المجتمع المعاصر: المجتمع الورقي.

 

المصادر والمراجع

  • أحمد، حسن غريب (لا.ت). التقنيّات الفنيّة والجماليّة المتطوّرة في القصّة القصيرة. طبعة إلكترونيّة kotobarabia.com
  • زراقط، عبد المجيد (15 شباط 2020). دريّة فرحات… شهرزاد الحكايا المعاصرة، جريدة الأخبار. بيروت: al-akhbar.com
  • فرحات، دريّة (11 مارس 2022). ندوة أدبيّة حول إحكي يا شهرزاد، مجلّة البناء، al-binaa.com
  • المناصرة، حسين (2015). القصّة القصيرة جدًّا، رؤى وجماليّات، إربد: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع.

الخطاب الأدبيّ الرّقميّ (الإنتاج والتّلقي بالقصة القصيرة جدا)

ليندا حجازي

 

نتج عن التطوّر الهائل في مجال الإعلام والملتيميديا واستثمار الوسائط المتعدّدة والتكنولوجيا الحديثة، جدلٌ كبير حصل في السّاحة النّقديّة والأدبيّة، نتيجة الانتقال من فضاء النصّ الورقيّ إلى فضاء النصّ الرّقميّ، مما مسّ المرجع في جوهريْن مهمّين من نظرية الأدب، وهما عمليتا الإبداع والتلقي.

وهذا ما استوجب الانتباه إلى خصوصيّة الخطاب الأدبيّ الرّقميّ وطبيعةِ النصّ الرّقميّ في حد ذاته، النصّ الذي تأتلف فيه الكلمة مع الصّورة والصّوت واللّون ويرتبط بوصلات وقنوات تفاعليّة.

وإن المتابعَ للنصوصِ الرّقميّة وبخاصة القصّة القصيرة جدًا أنموذجًا، كتابةً وتلقيًا أدبيًّا. يطرحُ تساؤلاتٍ عميقة، مستوضحًا عن كيفيةِ عبورِ القصّة الورقيّة التي تعتمد اللّغة المقروءة إلى القصّة الرّقميّة باعتماد تقنيّات الرقمنة.

وإنّ القارئَ الرّقميّ حين تصطدم حواسُّه بالصّورة المرئيّة (تشكيل الصّورة والألوان وحركة الجمل والفيديوهات) والموسيقى المسموعة (التشكيل السّمعيّ)، يظلّ باحثًا عن ماهيةِ إنتاج الدلالةِ القصصيّة وتعميق الرؤية الفنية بالقصّة القصيرة جدا.

ومن أجل ذلك ستسعى الدراسة إلى الإجابة عن شتّى الإشكاليّات المتعلّقة بمفهوم الأدب الرّقميّ وستكشف عن الأدوات الإجرائيّة القادرة على خلق أدب رقميّ بالقصّة القصيرة جدّا، ساعيةً في ذلك إلى استجلاء أهمّ المفاهيم التقنيّة في بنية النصّ الأدبي الرقمي، ومجمل الروابط التي تحكم الخاصيّة التفاعليّة..

كلمات مفتاحية:

الزمن الرّقميّ، الأدب الرّقميّ، المؤلّف الرّقميّ، القارئ الرّقميّ، الفضاء الافتراضيّ، التّناصّ الاسترقاميّ.

تقديم

على وسيطٍ، هو شاشة كمبيوتر، ظهر الأدب الرّقميّ كونه جنسًا أدبيًّل جديدًا بالسّاحة الأدبيّة، كتابةً ونشرًا.. ولعلّ ما يميّزه عن باقي الأجناس أنّه للوهلة الأولى يظهرُ على جدار المتصفَّح معتمدًا على دمجِ الوسائط الإلكترونيّة المتعدّدة، سواء بالوصلات النّصيّة و/أو الصّوتيّة، أو/ والحركيّة.

واستنبط أفضيةً تسمح للقارئ بالمشاركةِ أو بالتّحكّم والنّقد وتباين الرّؤى الفكريّة، وتمنح للقارئ مساحة للتّفاعل والمعرفة واسعة.

وانطلاقًا من تداعيات عصر السّيولة الذي أنتج الأدب الاستهلاكيّ الذي يمازج بين الأدب، وتكنولوجيا الاتّصال الحديثة، ويَصهر الثّقافة الصّلبة للأدب الورقيّ ويستبدلها بثقافة جماهيريّة استهلاكيّة وانطلاقًا من مقاربة السّيولة لزيجمونت باومان(*)

نودّ طرحَ الأسئلة التالية:

  • ماذا يُقصد بالأدب الرّقميّ؟ ما هي أهمّ مميزاته وخصائصه!؟
  • ما هي أهمّ المفاهيم التّقنيّة في بنية النّص الأدبيّ الرّقميّ؟
  • ما الأدوات الإجرائيّة القادرة على خلق أدب رقميّ بالقصّة القصيرة جدًّا؟

 

أوّلًا- النص الأدبي الرّقميّ: المفهوم والخصائص
1-  مقاربات المفهوم الرّقميّ
  • الثقافة الرّقميّة عمومًا، والأدب الرّقميّ، على وجه الخصوص.

تعدّدت تسمياته واضطرب كثيرٌ من الباحثينَ في ضبط حدوده.. فمنهم مقارن وباحث في خصائصه التي تميّزه من النص الأدبيّ غير الرقمي. ومنهم مدافع عنه مستشرف لمستقبله الديجيتاليّ الذي يتجاوز الذّاكرة في ظلّ الثورة التكنولوجيّة، ومنهم معاند بالثابت والمتحوّل بالأدب وغيرهم مفاخرٌ بعناصر العمليّة الإبداعيّة (المبدع الرّقميّ، والنّص الرّقميّ، والقارئ الرّقميّ).

وفي إطار محاولة تحرير هذا المفهوم الأدبيّ من مفهوماته السابقة التقليدية، أقترح هذا المفهوم المرتبط بالاسترقام(*) التناصيّ/( الوسائط الإلكترونية) لا غير:

الأدب الرّقميّ هو ناتج معرفيّ تناصيّ سائل  لعمليّة صوغ لإمكانيّات ممنهجة توظّف وسائط، عبارة عن خطط وإستراتيجيّات دقيقة متفاعلة فيما بينها، وهندسة للمعنى تُنتج تعبيرات بلغة مرقمَنة… دون المساس بمرجعيّة نظريّة الأدب…

وعلى هذا الأساس نزعم أنّنا حددنا رؤيتنا للنّصّ الرّقميّ من حيث:

– المبنى /” التفكير التصميمي “.. رصد المقصديّة من التقنيّات والروابط الرّقميّة.

– ومن حيث المعنى /”مقصديّة دوره الإبلاغيّ والجماليّ” التي تعبر عن حالة انتقاليّة لمعنى الوجود، ومنطق التفكير، وإدراك المعرفة.. مراعيا في ذلك نظريّة الأدب كمرجع يلتزم بالمؤسَّسة الأدبيّة وقيم الذوق الأدبيّ العام.

 

2-  خصائص النص الرّقميّ

تدور ملامح وميزات النص الرّقميّ حول:

  • مركز ثابت إدراك المعنى الرّقميّ والقبض على المعرفة.
  • ومتحولاتٌ تبحث في أهمّ أنواع الوسائط التفاعليّة وقصديتها المرافقة للّغة في النص الرقمي.
  • أفضية وأحيزة تتقصّد توظيفها بكفاءة ودقّة تبعًا للشروط الجمالية والتقنيّة.
  • اللّاخطّيّة والسيولة.

إذا كان الفضاء النّصيّ الورقيّ يتّسم بالخطيّة التي يكون فيها القارئ الورقيّ أو المشاهد أو المستمع مشدودًا إلى متابعة النّص من بدايته إلى نهايته، لكي يقبض على المعنى والدّلالة، يظل يحاول إعادة تشكيل النص، وبنائه، ليكون مشاركًا…

فإنّ النص الرّقميّ الذي يدمج الوسيط (الحاسوب) مع الفضاء الذي أوجده ذاك الوسيط (الفضاء الشبكي)، يكون لا خطّيًا.

وهكذا فإنّه مع “النّص المترابط” نلحظ القارئ الرّقميّ الذي يتحسّس هذه التّشعّبات والتفرّعات، على تنوّعها واختلاف طبيعتها، يؤسّس خطًا للنّص وتشكيلّا واسترقامًا مختلفًا يناسبه، منطلقًا من طبيعته الذّاتيّة، ويوجد له عبر التّفرّعات مسارات وتنظيمات أخرى ومفاهيم دلاليّة أخرى؛ لأنه ينطلق من وسيط مختلف.

ثانيًا: سيولة الاسترقام التناصيّ

استئناسًا بجينيت في كتابه «أطراس» وبـ (النصيّة الفوقيّة) وتأكيدًا أنّ ثمة قارئ يتتبع إشارات النص كي يدركَ العلاقة المؤلّفية ويدلّل على ما في العمل من تناص.

واستئناسًا بمنظّري علم السّرد الذين أفادوا من التّناصّ في بناء نظريّة (الاستبدال Metalepsis)  التي تؤكد وجود نصّ واقعيّ بُني على نّص غير واقعيّ، أو تعبر عن التقاء حكاية مضمّنة في حكايةٍ أو قصّة تستوحي قصّة سابقة.

واستنادا لمونيكا فلودرنك في دراستها (تناوب الاستبدال والنمط الاستبدالي، وتأسّيًا بما ذهب إليه ويرنر وولف في كتابه استيراد مفاهيم علم السرد، فإنّني أجترح هذا المفهوم الاسترقام التناصيّ والذي يعني أنّ خارج اللّغة المقروءة نجد اللّغة الرّقميّة، وإنّه كما نقرّ بوجود السّارد الورقيّ، وبالمسرود له الورقيّ، إنّه ثمّة ساردٌ رقميّ، ومسرود له رقميّ، ما يثير حكاية أخرى ما رقمية.

وهكذا فإنّ الاسترقام التناصيّ ينتهك المستويات المعتادة في بناء الخطاب الورقيّ ويكسر الحدود الأنطولوجية المعهودة.

فتكون بذلك مقصديّة الوسائط والروابط الرّقميّة، والعابرات الوسائطيّة دالة على الحكاية الرّقميّة، وكذا السارد والمسرود إليه، والخطاب، والنص الرقميين..

1-  النّصّ: غريبة

غريبة

التفت حولي

أين أنا؟!

أنظر إلى الوجوه

غريبة…!

تعلو الأصوات… تدبك الأقدام… تجلجل الزغاريد

لكنّني غريبة… هذا ليس مكاني

أين أنا ؟؟؟ !!!

2-  بالتأويل والقراءة

كما كتب الرّوائيّ “مايكل جويس” روايته (الظّهيرة، قصة) مستعملًا النّصّ المتفرّع أو المترابط، وكما قدّم “روبرت كاندل” الشّعر التّفاعليّ.. هل يمكن حسبان قصّة غريبة قصّة قصيرة جدا رقميّة…؟!

إنّ المتتبّع لذلك التّماهي بين ما هو تكنولوجيّ، وما هو أدبيّ يلحظ بادئ الأمر استغلالًا لتلك التّقنيّات التّواصليّة في قصّة (غريبة) للدّكتورة دريّة فرحات… وإنّ الوعيّ بكيفيّة إيصال المضمون السّرديّ الرّقميّ على إثر اتّصاله بالتّكنولوجيا، قد كان واعيًا بأنّ القصّة في نسختها الورقيّة لا بدّ أن تعبر؛ معتمدة على اللّغة المقروءة، تلك الجسور والمعابر، لتصل إلى ما يشبه القصّة الرّقميّة مستعينة بوصلات وتقنيّات مرقمنة.

وإنّ الفضاء الجديد صار مستحدثًا لأنّه غيّر نظرتنا للقصّة التي كانت تعتمد على اللّغة المقروءة (تشكيل اللّغة المقروءة) فحسب، لتوجد، وتُحدث حيّزا جديدا تنصهر فيه الصّورة المرئيّة (تشكيل الصّورة، والألوان وتناغمها)، والموسيقى المسموعة (التشكيل السّمعيّ)، والحركة (الرّقص أو انتثار الكلمات بمساحة المرئيّ)، في بوتقة واحدة هدفها الأساسي وهي تعبر الوسائط، إنتاج الدّلالة القصصيّة، معمِّقة بذلك تجربة القاصّة ورؤيتها وفلسفة وجودها عند الاغتراب الوجودي.

وكما أنّ القاصّة أسطرت القصّة القصيرة جدًّا من خلال هذه الغربة التي جعلتها غربة وجود. نرى أنّ منيرة الحجّار في قصّتها الرّقميّة قد وظّفت كلّ التّقنيّات الممكنة معتمدةً على مرجعيّتها الثقافيّة، ونجحت في إبراز هذا الاغتراب لو تجاوزنا تفاصيل الألوان المختلفة التي استخدمتها بطريقة مُتقنَة وأيضًا تفاصيل الصّوت والموسيقى، وقُمنا بتسليط الضّوء على الحركة. على هذه الرّقصة المولديّة سنراها تعبير عن ضياع الوجهة لما تحويه من غربة وكأنّها تؤدّي رقصة السّماح لتجسيد التّشظّي، ومحاولة الخلاص.

إن نصّ الدكتورة درية فرحات انكتب بالصّورة، والصّوت، والمشهد السّينمائيّ والحركة، مما يشي بأنّ المبدع والمتلقّي على السّواء يستمتعان بمشاهد ذهنيّة، وماديّة متحرّكة، تحولّت فيها الكلمة الرّقميّة الى وصلة فاعلة بالتّخييل فعل الرّسم والتّصوير مكّنتنا من قراءة النصّ الرّقميّ كوحدة متكاملة دالّة. يرتقي فيها التّلقّي إلى القراءة الواعية الفنيّة التي تعمل على الدّمج بين اللّغة المكتوبة أو المسموعة، وبين هذه الوسائط لتكوّن نصّا تفاعليًّا رقميًّا للصّور، والألوان، والأصوات، والأشكال الهندسيّة حتّى أنّ التّوظيف التّرابطيّ لتلك الوصلات يخدم كل نص.

 

3-  خاتمة

لا يتأتى النصّ الأدبيّ الرّقميّ، والقصة القصيرة جدا التّفاعليّة إلا إذا انفتحا على إمكانات قرائيّة متعدّدة ومختلفة ناجمة عن تعبيرات أنتجتها روابط متّصلة بالحاسوب والانترنات، تفعل فيه تلك الوسائط التّرابطيّة فعل الاسترقام بديلًا عن الاستبدال أو التّناص كما بالنّص الورقيّ.

وهكذا تبعًا لتعدّد القراء الرّقميين واختلاف مرجعياتهم الجماليّة ومعارفهم بالتّكنولوجيا من جهة، واختلاف الوسائط والرّوابط ومقصديتها زمان القراءة من جهة أخرى أو تلقّي المعرفة من جهة ثانية.

تصير اللّغة المقروءة غير اللّغة الرّقميّة وذلك راجع إلى تنوّع مصادر العلامات اللّغوية الرّقميّة.

وهكذا لا تكفي الصّور، الحركات، الأصوات، وغيرها بالنّصّ الإبداعيّ على الشّاشة.. ليكون رقميًّا، إنّما الأمر يتعلّق بما يُتيحه الحاسوب من برمجيّات تدفع الى التّعدّدية الثّقافيّة من خلال خلق قارئ رقمي له مميزات مختلفة تدفعه لملء فراغات النص الرّقميّ وتدعوه لدمج معارفه الأدبيّة السّابقة لإرساء ثوابت جديدة وأنساق معرفيّة متحوّلة، قابلة للتّغيّر والتّغيير بزمن لاحق.

 

 

المصادر والمراجع

(*) مجلّة دراسات، المجلد11، العدد2، نوفمبر2022 الأدب السّائل: قراءة في مفهوم الأدب الرقمي في ظلّ مقاربة السيولة لزيجمونت باومان (كتاب زيجمونت باومان، الثقافة السّائلة، صادر، سنة 2018) مجموعاته التي صدرت في سنوات متتالية موزّعة في مجلّدين يتضمّن الأوّل: الحداثة السّائلة، الحياة السّائلة، الحبّ السّائل، والثّقافة السّائلة. بينما يتضمّن المجلّد الثّاني: الأزمنة السّائلة، الخوف السّائل، المراقبة السّائلة، والشرّ السّائل.

تمّت ترجمة مجموعة كتب السيولة الستّة للعربيّة على يد الدكتور حجاج أبو جبر، وقدّمتها الدكتورة هبة رؤف عزت في دار الشبكة العربيّة للأبحاث والنّشر عام 2006.

1- حسام الخطيب ورمضان محمد بسطاويسي، (جمادى الأخرة، سبتميبر 2001). آفاق الإبداع ومرجعيّته في عصر المعلوماتيّة، د.ب: دار الفكر، ص 56-115.

2- فاطمة البريكي (2006). مدخل إلى الأدب التفاعلي. الدار البيضاء المغرب: المركز الثّقافي العربي، ص 80-81.

3- سعيد يقطين (2005). من النص إلى النص المترابط: مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، ص 73-75.

4- علي حرب (2002). العلم ومأزقه: منطق الصدام ولغة التداول. الدار البيضاء المغرب: المركز الثقافي العربي، ص 155، 156.

5- أشرف الخريبي (2008). النص الرقمي. مجلة الجودة، العدد19، 372/374.

https://issuu.com/aljoubah/docs/joba

6- باومان، زيجمونت (2016). الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، تر. بثينة إبراهيم وسعد البازعي. أبو ظبي: هيئة أبو ظبي، ص 11.

  • Velikovsky, T. J. (2014). Why Some Things Are Popular. Sydney. p.56

8- نادية هناوي،

https://www.alquds.co.uk/ /

 

9- نادية الهناوي، الاستبدال أو الميتالبسيس… والسرد غير الطبيعي،

https://aleshraqtv.iq/all-detal.aspx?jimare

10- نادية الهناوي.. نفس المصدر السابق..

)**( خاصة الوضع التشعبي للبرمجة وهو ترتيب يعرف بـ( LIFO) وهو طريقة حوسبية في تتبع حركة المخزونات، حيث الذي يرد أخيراً يصدر أولاً.

11- ريترز، جور؛ وجيفري، ستيبسكي (2021). النظريات الحديثة في علم الاجتماع، تر. الدوسري، ذيب وعمر أحمد و الرديعان، خالد. الرياض: جرير، ص 87.

 

 

عدد الزوار:753

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى