أبحاثاللغة والأدب والنّقد

الإسلام عصبيّة جديدة أم تيّار في مواجهة العصبيّات القبليّة !؟

الإسلام عصبيّة جديدة أم تيّار في مواجهة العصبيّات القبليّة !؟

Islam: A New Tribalism or a Movement Against Tribal Loyalties!?

د. جهينا محمود المصري([1])

Dr.Jouhayna Mahmoud Al Masri

تاريخ الاستلام 7/2/ 2025                                       تاريخ القبول 28/2/2025

لتحميل البحث بصيغة PDF

الملخص

لا يزال الإسلام يطرح عدّة تساؤلات حول مفاهيمه وغايته واتّجاهاته… وإلى أي مدى استطاع أن يجمع القبائل العربيّة المتناحرة تحت مظلّته كأمّة إسلاميّة واحدة، لا تفرّق بينها عصبيّة جاهليّة مقيتة؟

وباعتماد المنهج الوصفي التّحليليّ، في هذا البحث؛ تبيّن أنّ الإسلام قد غيّر من المفاهيم السّائدة في الحياة الجاهليّة، وشكّل بتعاليمه الرّوحانيّة والعقلانيّة أسسًا قويّة لبناء دولته القائمة على العدالة والمساواة، والتّعايش بين الأديان، وحسن الجوار، بعيدًا عن أحقاد العصبيّات وضغائنها الفتّاكة…

ومع اتّساع رقعة نفوذه وسلطانه؛ دبّت فيه آفّة الوفرة المادّيّة، وتيقّظت حميّة العصبية من جديد، وتعرّضت الأمة لمخاطر القوميّة الفارسيّة، وشتى ألوان الغدر الصّهيونيّ؛ فأصيب كيانها بالوهن والخور؛ ولا يزال هذا الصّراع مشتعلًا حتّى يومنا هذا.

الكلمات المفتاحيّة: الإسلام، دين العدالة والسّماحة، العصبيّات القبليّة، المرتّدون، المنافقون، عبادة الأصنام، الثّأر والاقتتال، اليهود أهل الغدر والفساد، أمّة إسلاميّة واحدة، عبادة الله وحده.

Abstract

Islam is still true, with many questions, its concepts, its purpose, and its trends… To what extent can the warring Arab tribes be united under its umbrella as a single Islamic nation, not divided by hateful ignorant fanaticism?

By adopting descriptive analytical rules, in this research; It came to light that Islam may not be one of the principles of pre-Islamic life, but its spiritual teachings and religious powers constitute strong foundations for building its state on justice and equality. And coexistence between religions, and good neighborliness, to the hatreds of fanaticism and its deadly grudges…

While following his influence and authority; The scourge of material abundance crept in, the fever of nervousness awoke again, and the people were exposed to the dangers of Persian nationalism and all kinds of Zionist treachery. Her being became weak and weak. This conflict continues to rage to this day.

Key words : Islam, the religion of justice and tolerance, tribal fanaticism, apostates, hypocrites, idolatry, revenge and fighting, the Jews are people of treachery and corruption. One Islamic nation, worshiping God alone.

 

المقدمة

يعدّ الإسلام أحد الأطر الثّقافيّة والاجتماعيّة الأساسيّة في حياة ملايين الأفراد حول العالم. هذا البحث يهدف إلى دراسة الدّور الذي يؤدّيه الإسلام في تشكيل الهويّة الاجتماعيّة للأفراد والمجتمعات، مع التّركيز على الفروقات بين المفهوم العصبيّ في السّياقات القبليّة والتّطبيقات الحديثة للإسلام. سيتم مناقشة كيفية تأثير المبادئ الإسلامية في القيم الاجتماعيّة وتقديم بدائل للعصبيّات التّقليديّة.

 

أوّلًا: الإسلام وتأسيس الدّولة في المجتمع العربيّ

ظهر الإسلام في أوائل القرن السّابع الميلاديّ في بيئة مكة الحضريّة غرب شبة الجزيرة العربيّة، وكان من أهمّ توجّهاته وأهدافه تحقيق العدالة، وترسيخ حقوق المواطنة والتّعايش بين الأديان، ونبذ التّعصّب القبليّ، وبعض أعراف البداوة الجائرة.

حاول الإسلام أن يكافح الاتّجاهات القبليّة الخاطئة، ويظهر ذلك بقوّة في مكافحة العصبيّة القبليّة، وإحلال رابطة جديدة بين الأفراد تحلّ محلّ رابطة الدم، تلك هي رابطة العقيدة والإيمان، وأبدل بفكرة الغزو في سبيل الثأر، أو المرعى والماء، فكرة الجهاد في سبيل الدّين والمبدأ، والحرب المنظّمة في سبيل حماية الأمّة والدّفاع عنها، وتجاوز الحدود القبليّة بتكوين الأمّة التي هى فوق القبائل التي وضعت مصلحتها فوق كلّ مصلحة أخرى، ومع أنّ القبيلة بقيت وحدة اجتماعيّة، فإنّ الرّسول  (ﷺ( حاول أن يذيبها في الأمّة.

وأدخل الرّسول (ﷺ( عن طريق الدّين، فكرة الدّولة والقانون إلى العرب؛ ليقابل فكرة القبيلة والعرف، ففكرة السّلطة الخارجة عن القبيلة غريبة على البدو، وهم لا يعترفون بأيّ قانون خارج تقاليد القبيلة، وقد بيّن الإسلام أنّ  السّلطة لله وحده، وأساس الحكم الشّورى التي ترك سبيل تطبيقها للأمّة، وهكذا أدخل الرّسول فكرة الدّولة باسم الله، وجعل الشّريعة القانون العامّ؛ فهى فوق كل شيء؛ لأنّها القانون الإلهيّ، وحين يتّبع النّاس رسالة دينيّة، وتربطهم العقيدة يصبحون أمّة؛ فالأمّة هى الكيان السّياسيّ الاجتماعيّ، حيث تتوسع بامتداد دارها، وقد جمع الرّسول (ﷺ( في شخصة الكريم بين السّلطة الدّنيويّة والهداية الدّينيّة، ولم يفرّق بين النّاحية الدّينيّة والنّاحية السّياسيّة، بل جعلهما متلازمتين، إذ إنّ الدّين هو الذي يحفظ الوحدة في الأمّة.

واتّجه في النّاحية الاقتصاديّة إلى تخفيف الشّقاء الماديّ والتّباين الاجتماعيّ، والحدّ من الاستغلال؛ فحرّم الرّبا، وهو الفائدة من دون مقابل -كان آفّة المجتمع المكّيّ- وفرض الزكاة لمصلحة الفقراء، وأكّد أهمّيّة الإنفاق والصّدقة، وأنكر اكتناز الذّهب والفضّة، إلّا أن تنفقا في سبيل الله؛ وكلّ هذه التّشريعات تشير إلى محاولته تخفيف التّفاوت الماديّ والاجتماعيّ، وإلى ضرورة تأكيد التّعاون في شتّى مناحي الحياة المادّيّة.

 

ثانيًا:صراع الدّعوة الإسلاميّة مع التّقاليد القبليّة

جاء الإسلام دعوة جديدة وحركة شاملة، لم تعمّ الجزيرة العربيّة في مدّة وجيزة، ولم يمض عليها زمن كاف لكي تعمها؛ ومع أنّه انتشر في معظم أراضيها فيما بعد، فإنّ دوافع من دخلوا فيه كانت مختلفة: فبعضهم دخل لهداه وإيمانه، ومنهم من دخل طمعًا في الامتيازات، وبعضهم دخله خوفًا من سلطانه.

هذا، والدّعوات الجديدة تحتاج إلى زمن لتفهم، كما أنّ القديم لا بدّ من أن يصارع الجديد صراعًا مُحْتَدِمًا من أجل البقاء والاستمرار، وذلك يحتاج إلى وقت قبل أن يضعف ويتلاشى، ولا بدّ من أن تظهر آثار ذلك الصّراع في الحياة العامّة، فمثل هذا الصّراع كان من أهمّ العوامل في تطوّر التّاريخ الإسلاميّ في فترة صدر الإسلام([2]).

وقد فشل القديم في التّقاليد القبليّة، وتمثّل الجديد في الدّعوة الإسلاميّة، فحدث صدام وصراع في زمن الرّسول، واستمر هذا الصّدام والصّراع بعد وفاته بين هذين التّيارين الرئيسين: التّيار القبليّ والتّيار الإسلاميّ. وكانت وجهة التّيار الإسلاميّ نحو توحيد الجزيرة العربيّة سياسيًّا ودينيًّا، وإبادة عوامل الانقسام، وتوسّع رقعة الإسلام، وسيادة الأسس الإسلاميّة في الحياة العامّة.

أمّا اتّجاه التّيار القبليّ فكان مقاومة الاتّجاه المركزي، نحو استقرار التّقاليد العربيّة القبليّة على الرّغم من اصطدامها أحيانًا بالمبادئ والاتّجاهات الإسلاميّة.

 

ثالثًا: التّنازع على القيادة بعد وفاة الرّسول

لقد كانت قوّة الرّسول (ﷺ( وعظمة تعاليمه التي تتمثّل جليًّا في شخصه، وتعاظم نفوذ المسلمين عوامل فعّالة في إضعاف قوّة الاتّجاهات القبليّة في حياته.

ولمّا ارتفعت روح الرّسول الأعظم (ﷺ( انفتح الباب لتظهر النّزعات المكبوتة حدّتها، ولتؤكّد عناصر الانقسام قوّتها، فكانت أوّل ظاهرة للاصطدام بين التّيار الإسلاميّ والقبليّ بشكل عنيف وجارف، يُطلق عليه اسم حروب الرّدّة التي خاضها الخليفة الرّاشديّ أبو بكر الصّديق لإرجاع المرتّدين إلى الإيمان؛ ولكنّ النّقد يدلّ على عدم دقّة ذلك، وأنّ القبائل خرجت على المدينة لأسباب مختلفة، فقد نشأت الرّدّة عن خوف القبائل الوثنيّة من توسّع سلطان المدينة، وعن معارضة قبائل مسلمة لفكرة الخضوع للمدينة، وعن رغبة بعضهم الآخر في إنهاء هيمنة المدينة المتمثّلة في معاهدات عقدتها مع الرّسول (ﷺ)، وعن العصبيّة القبليّة بصورة عامّة، وعن المحافظة الدّينيّة.

لمّا ارتفعت روح الرّسول (ﷺ( إلى جوار ربّه؛ فتح الباب على مصراعيه أمام رؤوس الجماعة الإسلاميّة؛ ليعلنوا ما كانوا قد أسرُّوه في حياته، وأصبحت مشكلة القيادة: لمن الأمر بعد رسول الله (ﷺ( الشّغل الشّاغل لهذه الفئة أو لهذه الجماعات منذ أن سجي الرّسول على فراش الموت؟ وكانت ردود الفعل التي تعبّر عن مصالح وعادات كلّ جماعة أو فئة من الفئات التي كانت تتمثّل في مجتمع المدينة مستقرّ السّلطة، وفي بقيّة أرجاء الجزيرة العربيّة التي جاءت مبايعة في عام الوفود([3]).

قال ابن إسحاق، أوّل من دوّن السّيرة النّبويّة: لما افتتح الرّسول (ﷺ( مكّة، وفرغ من تبوك([4])، وأسلمت ثقيف وبايعت، وضربت إليه وفود العرب من كلّ وجه، ولذلك سُمي العامّ التّاسع للهجرة عام الوفود.

 

رابعًا: الإسلام دولة، وبداية الخلافة

إذا نظرنا إلى الإسلام كونه دينًا، نجده في الأصل أنزل، ليُخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ولتخليصهم من الشّرك، وهدايتهم لعبادة الإله الواحد.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة يتناساها بعضهم، وهي: أنّ الإسلام كدولة تمارس سيادتها، وتفرض قوانينها في شتّى المجالات: الإداريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والقضائيّة، وسواها، كانت بدايتها من صنع الصّحابة الأوائل الذين آل إليهم الأمر، وغدوا قادة دولة فحسب، بعد أن توقّف الوحي بوفاة الرّسول (ﷺ(.

وإنّ مبدأ قرشيّة الخلافة الذي أسفرت عنه اجتماعات سقيفة بني ساعدة، أظهر كثيرًا من التّيّارات التي لم تكن وليدة ساعتها، بل كانت تعبيرًا عمّا يعتمل في النّفس ومتنفّسًا لشكاوى لم يتح لها أن تعبّر عن نفسها خلال حياة الرّسول (ﷺ(؛ وإذا أضفنا إلى ذلك ما علق في النّفوس من آثار بعض الأحداث التي جرت بعد الهجرة النّبويّة إلى هذه المدينة، وجدنا في كلّ ذلك خلفيّة تفسّر مسار الأحداث التي بدأت قبل أن يوارَى الرّسول التّراب.

وكان القسم الأكبر من سكّان المدينة تجمّعًا قبليًا كبيرًا يضمّ قبيلتين هما: الأوس والخزرج؛ ومع مرور الزّمن وبسبب كثرتهما وقوّتهما، استطاعتا أن يغتصبا السّيادة وأن يصبحا سادتها الجدد، على رأي أغلب الباحثين المحدثين، في منتصف القرن السّادس الميلاديّ.

وكان من بين القبائل التي سبقت الأوس والخزرج في سكن يثرب قبيلتان تدينان باليهوديّة هما: قبيلة بني قريظة وقبيلة بني النّضير، وقد أقامت هاتان القبيلتان في الجزء الخصيب من أرض يثرب، وعاشتا حياة مستقلّة عن القبيلتين العربيتين الوافدتين.

وضمّت يثرب زمن الرّسول (ﷺ( قبيلة يهوديّة ثالثة هي قبيلة بني قينقاع، وكانت أقلّ نفوذًا من زميلتيها، كما ضمّت فئات عربيّة غير الأوس والخزرج، ربّما كانت بقايا السّكان العرب الذين كانوا يقطنونها قبل وصول اليهود إليها.

وكان بين الأوس والخزرج نزاعات كثيرة، أدّت إلى حروب طِوال كان آخرها يوم بعاث الذي وقع  قبل هجرة الرسول (ﷺ( بأعوام قليلة الذي أقام نوعًا من توازن القلق بين القبيلتين؛ لأنّ الحرب كانت قد أجهدت كلًا من الفريقين، فرغبا في الصّلح والخلاص منها.

حرب بُعاث، أو يوم بُعاث، فبُعاث إحدى المناطق الواقعة في مدينة يثرب، أو مدينة المصطفى (ﷺ( وقد وقعت بُعاث قبل إسلام يثرب، وقبل هجرة النّبيّ (ﷺ( إليها وهذه المعركة، بشكل أساس بين قبيلتي الأوس والخزرج، وهما أكبر قبيلتين في يثرب([5]).

والسّبب الرّئيس لهذه الحرب أنّ هناك تحالف بين يهود بني قريظة، ويهود بني النّضير، جدّدوا العهد مع الأوس على المؤازرة والتّناصر، واستحكم أمرهم، وجدّوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غيرهم؛ ولما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من “أشجع” و”جهينة”، وأرسلت الأوس حلفاءها من “مزينة”، ومكثوا أربعين يومًا يتجهّزون للحرب، والتقوا ببُعاث وهي من أعمال قريظة.

وكان يوم بُعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج؛ ثمّ جاء الإسلام واتّفقت الكلمة واجتمعوا على نصرة الإسلام، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.

 

خامسًا: تحدّيات الدّعوة في المدينة

وجه آخر للأزمة التي كانت في المدينة، قبل هجرة الرّسول (ﷺ( إليها، وجه اقتصاديّ سببه ازدياد مستمرّ في عدد السّكّان، لا يجاريه ازدياد مماثل في مخزون الطعام، وقد ترتّب على المنازعات المسلّحة التي كانت تجري بين سكّان يثرب، حيث غدت الأرض المنتجة عرضة لشريعة الغزو التي هي في الأساس مظهر من مظاهر عدم الكفاية الغذائيّة في الصّحراء، هذه الشّريعة التي ظلّت سائدة في يثرب أدّت إلى خطر السّلب ومحاولة الاستيلاء القسريّة؛ وبالتّالي إلى حال من المنازعات الدّائمة.

وكانت النّظم الاجتماعيّة في يثرب مشابهة للنّظم السّائدة في المجتمعات الصّحراوية، وكانت العصبيّة القبليّة أساسًا أوليًّا من أسس العلاقات بين أفراد المجتمع، وكان الثأر، والدّية، شريعتين مهمّتين من شرائع العمران البشري عندهم؛ وقد أدّى هذا التّضامن القبليّ إلى صيرورة مهمّة الدّفاع عن الممتلكات الشّخصيّة مسؤوليّة الجماعة القبليّة بكاملها، لا مسؤوليّة الفرد وحده؛ ومعروف أنّ المجتمعات المستقرّة لا تحتاج إلى عصبيّة قبليّة لضبط شؤونها، بل جلّ ما تحتاجه هو رأس مدبّر واحد يتولّى مقاليد الحكم، ويتصرّف فيما يعرض بين النّاس من مشاكل وأزمات.

7

فالتّناقضات بين الجماعات المكوّنة للمجتمع اليثربيّ، وعدم وجود عامل موحّد يجمع شتات النّاس، كالتّجارة في مكّة مثلاُ، أدّت إلى قيام صراعات واصطدامات دائمة بين سكّان هذه المدينة، يضاف إلى ذلك أنّ الأسرة في المجتمع الزّراعيّ هي الخليّة الضّروريّة للإنتاج، في حين أنّ مجتمعًا، كمجتمع مكّة، يعمل أفراده بالتّجارة يحتاج بالضرورة إلى التّضامن القبليّ؛ ولهذا كلّه، كان التّضامن القبليّ في مكّة أوضح منه في المدينة، وأيًّا كانت الأسباب فإنّ المجتمع اليثربيّ، قبل قدوم الرّسالة إليه كان مجتمعًا منقسمًا على نفسه، وتتقسّمه الحزازات، وتنخره أمراض كثيرة، أهمّها فقدان الوحدة بين عناصره المختلفة؛ وكانت هذه الأسباب من العوامل التي مهّدت الأرض لحُسن استقبال الرّسول (ﷺ(. أمّا في مكّة، فإنّ الخوف من تصدّع الصّفّ المكِّيّ، وانقسام النّاس إلى شيعتين، أو فريقين دينيين كان من أبرز العوامل التي دعت المكِّيّين إلى حربه وإعلان العداء له، وفي هذه الفرقة في الصّفّ التي كانت تعاني منها يثرب قبل الإسلام ووحدة القرشيّ المبنيّة على المصلحة المشتركة التي كانت سمة مجتمع مكّة قبل الإسلام، نجد الخلفيّة التّاريخيّة لفرقة الصّفّ بين جماعة الأنصار في اجتماع السّقيفة بعد وفاة الرسول (ﷺ( وحين كان أمر خلافته يقرر أو يحسم إلى الأبد، ووحدة الصّفّ القرشيّ في هذا الاجتماع / التي انتهت بإقرار مبدأ قرشية الخلافة([6]).

 

سادسًا: التّمرد القبليّ ورفض الزّكاة

8

كان على الرّسول (ﷺ( أن يهاجر إلى المدينة لعدم نجاح دعوته في مدينة مكة الأم، ومواجهته ظروفًا صعبة في دار هجرته؛ لقد كان المكِّيون أعداءه الظاهرين وكان عليه أن يواجه ألاعيب سياسيّة، ومؤامرات كثيرة تدبَّر في الخفاء من قبل الفئات المختلفة التي تسكن المدينة، ولم يكن الرّجل المطاع الأوحد في المدينة، المطاع الذي لا ينازع سلطته منازع. لقد كان أوّل الأمر لا يملك السّيادة إلّا على الجماعة التي آمنت به من مهاجرين وأنصار، وكان عليه أن يبذل جهدًا كبيرًا في ميدان الدّعوة الدّينيّة بين أولئك المدنيين الذين لم يقبلوا الإسلام دينًا، وقد أثمرت جهوده في هذا الميدان بسرعة، إذ انضمّت أغلب الفئات التي لم تعتنق الإسلام إلى هذا الدّين في أقل من عام من الهجرة؛ ومن الطّبيعيّ أن تبقى بعض الفئات خارج هذا الإجماع مثل المنافقين الذين اعتنقوا الإسلام ظاهريًّا وحاربوه حربًا مقنّعة تبعًا لمصالحهم، وكذلك الأشخاص الذين تشبّثوا بكفرهم المعادي، واستمروا يعارضون الرّسول (ﷺ،( ويرفضون الإسلام كأفراد من فئة عبد الله بن أُبي، زعيم المنافقين كان لم يجرؤ على معاداة الإسلام جهارًا بل تستّر بإسلام ظاهريّ، وكاد للإسلام تحت ستار من إيمان زائف.

وقد يجد المرء عذرًا في ذلك؛ لأنّ الإسلام، وقدوم محمد (ﷺ( إلى المدينة، حرمه من ملك كان يُعدّ نفسه له، فلما رأى قومه وقد أبوا إلّا الإسلام، دخل فيه كارهًا، مصرًّا على نفاق وضغن([7])؛ أمّا أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النّعمان، فقد اندفع في عداء عمّه للإسلام من موقف عقائديّ  على حدّ زعمه، ودخل مع الرّسول (ﷺ( في نقاش طويل حول الإسلام الذي يبشِّر به الرّسول وصلته بالحنفيّة دين إبراهيم الذي يزعم أنّه يدين به، وأنّ الرسول أبعده عن (نقائه الأوّل)؛ وقد وصل عداؤه للدّين (الجديد) حدّ القيام بهجرة معاكسة من المدينة إلى مكّة، حيث لا سلطان هناك لمحمّد (ﷺ(، وحين فتح الله مكة على يد الرّسول (ﷺ( تركها إلى الطّائف، فلمّا أسلم أهلها لحق بالشّامّ حيث مات طريدًا غريبًا وحيدًا([8])؛ ولم يكن أبو عامر وحده في هذا الموقف، فقد هاجر معه من المدينة إلى مكّة بضعة عشر رجلًا مفارقين للإسلام ورسوله، كما هاجر معه إلى الشّامّ عدد منهم بعد نصر الإسلام الكامل على الجزيرة العربيّة.

قال ابن إسحاق: ولمّا قدِم رسول الله (ﷺ( المدينة، وسيّد أهلها عبد الله بن أُبي ثمّ أحدُ بني الحُبلى، لا يختلف عليه في شرفه (من قومه) اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من الفريقين حتّى جاء الإسلام غيره، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مُطاع، هو: أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان وكان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المُسوح وكان يُقال له: الرّاهب فشقيا بشرفهما وضرّهما([9]).

فأمّا عبد الله بن أُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز؛ ليتوّجوه ثمّ ليملّكوه عليهم، فلمّا انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضَغِن، ورأى أنّ رسول الله (ﷺ( قد سلبه مُلكًا، فلمّا رأى قومه أبوْا إلّا الإسلام دخل فيه كارهًا مُصرًّا على نفاق وضَغن.

وأمّا أبو عامر فأبى إلّا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج منهم إلى مكّة ببضعة عشر رجلًا مفارقًا الإسلام ولرسول الله (ﷺ(، فقال رسول الله (ﷺ(: لا تقولوا الرّاهب ولكن قولوا: الفاسق.

وفي رواية أخرى أنّ أبا عامر أتى رسول الله (ﷺ( حين قدم المدينة قبل أن يخرج إلى مكّة فقال: ما هذا الدّين الذي جئت به؟ فقال: جئت بالحنفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها، قال له رسول الله (ﷺ(: إنّك لست عليها، قال: بلى، قال: إنّك أدخلت يا محمَّد في الحنفيّة ما ليس منها، قال: ما فعلتُ، ولكنّي جئت بها بيضاء نقيّة.

قال: الكاذب أماته الله طريدًا، غريبًا، وحيدًا – يعرض برسول الله (ﷺ(- أي أنّك جئت بها كذلك، قال رسول الله (ﷺ(: أجل، فمن كذب ففعل الله تعالي به. فكان هو ذلك عدوّ الله، فخرج إلى مكّة، فلمّا افتتح رسول الله (ﷺ( مكّة خرج إلى الطّائف، فلمّا أسلم أهل الطّائف لحِق الشّامّ، فمات طريدًا، غريبًا، وحيدًا([10]).

فهناك قبائل قدّمت ولاءها للرّسول وعدّت هذا الولاء شخصيًّا – بحسب التّقليد – ينتهي بوفاة الرّسول، وبعضها مثل قسم من القبائل في شمالي الحجاز، كانت لها معاهدات تنتهي بوفاة الرّسول، وهذه القبائل لم ترَ موجبًا للخضوع لأبي بكر؛ وتوجد قبائل مسلمة، ترى في دفع الزّكاة خضوعًا مهينًا لها، مثل بعض بني تميم، وكانت مستعدّة للتّمسك بالإسلام من دون أن تدفع الزّكاة.

مرّ عمر بن الخطاب ببقرَّة بن هبيرة، وحوله عسكر من بني عامر، فقال بقرة : (يا هذا: إنّ العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى إلّا أن تجتمع عليكم)([11]).

وهناك العصبية القبليّة التي تتمثّل في رغبة القبيلة بعدم الخضوع لسلطة خارجيّة، وهذه تتمثّل في الرّغبة عن دفع  الزّكاة، وفي تحزّب الكثير من القبائل ضد سلطة المدينة، ومن أمثلة ذلك ما فعله عيينة بن حصن زعيم غطفان فقد قام في قومه وقال: (ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين أسد، وإنّي المجدّد للحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتّبع نبيًّا من الحليفين أحبّ إلينا أن نتّبع نبيًّا من قريش، وقد مات محمّد وبقي طليحة فطابقوه على رأيه)([12]).

وهناك قبائل لم تخضع سياسيًّا، ولا دينيًّا للرّسول، مثل بعض القبائل في اليمامة، فمسيلمة الكذّاب طلب من الرّسول (ﷺ( في حياته أن يشاركه في النّبوّة، وأن يقتسم السّلطة معه، فكتب إلى الرّسول: (من مسيلمة، رسول الله إلى محمّد رسول الله: أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك، وإنّ لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشًا قوم يعتدون)؛ فأجابه الرّسول (ﷺ(: (بسم الله الرّحمن الرّحيم، من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، السّلام على مَن اتّبع الهدى، أمّا بعد، فإنّ الأرض لله يورثها مَن يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين)([13]).

وأيضًا، عيينة بن حصن زعيم غطفان الذي أُسر وجئ به إلى المدينة، تذكر عنه الرّواية: (أخبرني مَن نظر إلى عيينة بن حصن مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، ينخسه غلمان المدينة بالجريد ويقول: أي عدو الله! كفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قط)([14]).

إنّ الدّعوة الإسلاميّة تهدف إلى القضاء على الجاهليّة الجهلاء والضّلالة العمياء، وأنّ من أهدافها الأساسيّة بسط النّفوذ على الأرض والسّيطرة على الموقف السّياسيّ في العالم؛ لتقود الأمّة الإسلاميّة الإنسانيّة إلى مرضاة الله تعالى، وتخرج البشريّة من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى وحده.

 

سابعًا: نفاق اليهود وإشعالهم الفتن

وكان في المدينة ثلاثة أصناف:

  1. أصحاب النّبيّ، وهم الصّفوة المختارة (رضي الله عنهم) الذين كانت تربيتهم على الكتاب والسّنّة، ولكن رسول الله (ﷺ( هو معلمهم، قال الله تعالي: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([15]).

كان العرب قبل بعثة الرّسول يعبدون الأصنام، ويشربون الخمر، ويتعاملون بالرّبا، ويتقاتلون لأتفه الأسباب.

  1. المنافقون حيث ظهر النّفاق على أشدّه في المدينة؛ لأنّ الإسلام أضحى قوّة مرهوبة الجانب، فكان على رأسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول الذي كان ينتظر القيادة، ويطمع في الملك والسّيادة قبل مجيء الرّسول (ﷺ( ووصوله إلى المدينة.
  2. اليهود الذين انحازوا إلى بلاد الحجاز زمن الاضطهاد الأشوري والرّوماني وكانوا عبرانيين ولم يندمجوا في العرب، بل كانوا يفتخرون بجنسيّتهم اليهوديّة ويحتقرون العرب ويسمّونهم أميين، أي أنّهم وحوش سذج وأراذل متأخرون، وكانوا يرون أنّ أموال العرب مباحة لهم([16]). قال تعالى: (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِيالْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)([17]).
  • ولم يكن لليهود بخس في نشر دينهم، وإنما جلَّ بضاعتهم الدّينيّة الفأل والسّحر والنّفث والرّقية.
  • كانوا يرون أنفسهم أصحاب علم وفضل وقيادة روحانيّة.
  • كانوا مهَرَة في فنون الكسب والمعيشة، وكانوا أصحاب دسائس ومؤامرات وعتوّ، وفساد يلقون العداوة والبغضاء بين القبائل العربيّة المجاورة التي كانت في حروب دامية، متواصلة؛ قال تعالي: (يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِن تُطِيعُوا۟ فَرِيقًۭا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ كَـٰفِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ)([18]). والخطاب هنا للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم، واللّفظ في الآية عامّ.

وكان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود:

  • بنو قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة.
  • بنو النّضير.
  • بنو قريظة.

وهاتان القبيلتان: بنو قريظة وبنو النضير كانتا حلفاء الأوس، وكانت ديارهما بضواحي المدينة؛ وهذه القبائل كانت تثير الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد أسهمت في حرب بُعاث، كلّ مع حلفائها، وقد دامت تلك الحرب سنين طويلة([19]).

إنّهم اليهود قاتلو الأنبياء، وسفّاكو الدّماء، أهل الغدر والخيانة وأهل الفساد والجريمة، قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ )([20]).

إنّ لهذا العنوان حقًّا لن يفيَ به إلّا تدنيس أضخم البلدان بعبارات يخطّها الدّم القاني الذي  أهرقه اليهود في مجازر حقدهم، وغدرهم بالشّعوب؛ لأنّ جرائمهم الشّنيعة لا تحصى، ولا تقع تحت حصر كتاب تاريخ، ولا هي انحسرت عبر إقليم في الأرض، أشرقت عليه أشعّة شمس؛ لذلك خاطبهم السّيّد المسيح قائلًا لهم: (إنّكم مطالبون بدماء جميع الأديان، من دم هابيل الصّديق إلى دم زكريا ابن بركيا الذي قتلتموه بين المذبح والهيكل، بل وهم مطالبون بدم السّيّد المسيح الذي سفكوه على جبل الجلجلة ومطالبون بدماء جميع شعوب الأرض التي هم افتعلوا لها الحروب والثورات والمجازر من أيّام السّيّد المسيح إلى الدّماء التي تهرق اليوم في العالم، وعلى أرض فلسطين وعلى أرض القدس المقدّسة وفي بيوت الله الطّاهرة؛ أما أهوال جرائمهم المروعة، ومشاهدها التي تدمي البصر والقلب والإحساس وطرائقها وأساليبها فلا يستوعبها عقل بشر، ولا تحتملها أعصاب أعتى المجرمين، وأشرسهم. تذكّروا كيف كسّر مجموعة من الجنود الإسرائيليين بكلّ وحشية، وحقد عظام الفلسطينيّ الأعزل أمام نظر العالم بأسره، وهو يستغيث ويتوسّل منظر يشلّ الفكر، ويشط عزائم العتاة، وتذكّروا أيضًا أشلاء مذابح صبرا وشاتيلا ولا أحد في العالم يعتبر ويتذكر).

ولكن إذا ألقينا نظرة على ما فعلوه بالشّعوب لم يبخلوا به على العرب، مسيحيين كانوا أم مسلمين، فقد نكّلوا بالمسيحيّة تنكيلًا اهتزّت لهوله الجزيرة العربيّة. لقد أحرقوا الكنائس في اليمن، ونجران وحضر موت وغيرها من المناطق والمصلّون في داخلها، فمنهم مَن مات حرقًا ومنهم مَن مات اختناقًا، وحتى أتوا على أكبر عدد ممكن جمعوهم في أخدود، وصبّوا عليهم النّفط وأحرقوهم بأمر الملك أبو نوّاس بعد أن عمدوا إلى تهويدهم، وما فعلوه بالمسلمين وقبله بالإسلام لم يقلّ فظاعة عمّا ارتكبوه بحقّ غيرهم من الأمم([21]).

فقد عمد اليهوديّ عبد الله بن سبأ إلى اعتناق الإسلام، وأظهر غيرة منه عليه ما أخفي على المسلمين مرامه الحقيقي، إذ صاغ لنفسه أفكارًا فقهيّة أبدى من خلالها حرصًا شديدًا على تعاليم الإسلام وتطبيقه حتّى جمع حوله أنصارًا في مختلف الأقاليم والأمصار؛ وعندما تمكّن من وضع نفسه في موقع المرجعية، أخذ يبعث الفرقة والتّفرقة بين رجالات الحكم والحكّام فيما بينهم من جهة وبين المسلمين من  جهة أخرى، حتّى استطاع شطر المسلمين إلى معسكرين، والإيقاع بينهما، فاقتتل الإخوة والأشقاء، ولا يزال الإسلام إلى اليوم  يعاني من التّفرقة والاقتتال، وهم– أي اليهود – بكلّ حقد ولؤم يتفرجون([22]).

وإذا نظرنا إلى فرقة السّبئيّة الذين يسبّون أصحاب رسول الله (ﷺ( إلّا قليلًا، وينسبونهم إلى الكفر والنّفاق، ويتبرّأون منهم؛ لذا سُمّوا أيضًا بـ “التبرئية”، وقد تبرّأ منهم الإمام عليّ (عليه السّلام)؛ وكان يتزّعم هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهوديّ الذي أظهر إسلامه خداعًا للمسلمين، ودعا إلى الغلوّ في عليّ (عليه  السّلام) لأجل تفريق هذه الأمّة، كما فعل أمثاله من النّصرانية قديمًا وحديثًا بسبب ما كان من العداوة والقتال بين قومه وبين النّبيّ (ﷺ( وإجلاء عمر (رضي الله عنه) من بقي منهم في  أرض الحجاز. وأعان ابن سبأ على دعوته آخرون من أهل ملّته، ومن زعماء النّصارى والوثنيّين والصّابئة، وظهر من هؤلاء جماعة قالوا بألوهيّة سيدنا عليّ (عليه السّلام) وعلم بهم وقاتلهم([23]).

ويبدوأن هذا الشّعب هو من نسل (سلالة) قابيل قاتل أخيه هابيل الذي لعنه وحكم عليه أن يعيش تائهًا مشرّدًا؛ لذلك فهو شعب ينتقم؛ ونطالع في تاريخهم السّحيق عن واحدة من جرائمهم القديمة التي ارتكبوها في فلسطين على يد أبناء يعقوب الذين لجأوا إلى الكيد والمكر والغدر في تنفيذها على الرّغم من أنّ “حمور” الذي استضافهم في أرضه ووطنه عرض عليهم المصاهرة والتّعايش ووضع أملاكه وأمواله في تصرّفهم؛ ليتمكّنوا ويتجرّأوا؛ لأنّ ابنه “حكم” أحبّ “دينة” ابنة “يعقوب” وعاشرها خلسة، فقبلوا بمكره، شرط أن يختان جميع أهل البلد، وفي ثالث يوم الاختتان، وهم يعانون من جروح أبدانهم كمنوا لهم وغدروا بهم، وأعملوا السّيف فيهم وسبوا النساء والأطفال بعد أن غدروا بــ “حمور” و “شكيم”، ولا يزالون يمارسون طقوسهم التي اعتادوا عليها حتّى يومنا هذا، فقد استطاعوا أن يقسّموا المسلمين إلى فئتين متناحرتين، وأن لا تزال النّار راكدة تحت المسيحيّين بعد أن ظهرت تباشيرها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

ويختم كاتب المقال بالقول: فإنّ حروف العربيّة الثّمانية والعشرين لن تفي بغرض وصف الأحداث ولو تضاعفت عشرات المرّات؛ لأنه لا يمكن وصفها بلغة البشر، حيث يبدو أنّني أحتاج إلى أبجدية، وتعاليم أبالسة الجحيم وشياطين ما تحت الأرض.

لقد انتظر اليهود بعد الهزيمة أمام الكنيسة الظّروف المناسبة بصبر الجلمود للانتفاض على فريستهم الحمل الوديع المتواضع، وما أكثر الظّروف والمناسبات التي كانوا يتهيئون لها لخدمة  أهدافهم([24])! وها نحن فيها ونراقبها، ونتحسّر على ما يدور حولنا من وهن وظلم وجهالة تلفّ جميع زعماء هذه الأمّة الإسلاميّة والعربيّة بعباءة هذه الفتنة الظّالمة التي لا تراعي فيها الإنسان والحيوان و الجماد، وتحاول أن تقلب الموازين الإنسانيّة على أعقابها، وكيف لا وهي من صناعة ربّ غير موجود على هذه الأرض التي تحرق بأيدي العرب المسلمين أنفسهم.

ومن هنا، نرى أنّ تاريخ هؤلاء القوم، تاريخهم القديم الذي يعود إلى آلاف السنين نراه يتجدَّد بالأساليب التي أتقنوها، والأساليب التي ابتدعوها وهم على مرأى من هذا الصّراع القائم على الأرض العربيّة والإسلاميّة وزعماء الامّة في فترة تنويم أو نوم عميق وطويل، وكأنّ الأمر لا يعنيهم ما داموا يقبضون الثّمن حتّى تصلهم الأسلحة الفتّاكة التي يستعملونها أسيادهم اليهود بأموال إخوانهم العرب المسلمين.

وإذا عرجنا على يهودنا الذين يلتفّون حول تاريخنا القديم والحديث نجدهم متأهّبين للعمل الذي يوصلهم إلى مصالحهم الخاصّة، ويجعل منهم مستشارين لأبناء العرب والإسلام ضعفاء العقيدة والدّين.

إنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله (ﷺ( قبل مبعثه، فلمّا بعثه الله من العرب وليس منهم، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه([25]).

فهؤلاء أحبار اليهود وأهل الشّرور والعداوة لرسول الله (ﷺ( وأصحابه، وأصحاب المسألة، والنّصب لأمر الإسلام الشّرورَ ليطفئوه، إلّا ما كان من عبدالله بن سلام([26]) ومخيريق؛ قال ابن إسحاق: كان عبدالله بن سلام حبرًا عالمًا قال: (لمّا سمعت برسول الله (ﷺ( عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنّا نتوكّف (نرتقب ونتوقع) له، فكنتُ مُسِرًَّا لذلك صامتًا عليه حتّى قدٍم رسول الله (ﷺ (المدينة، فلمّا نزل بقباء في  بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتّى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلمّا سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله (ﷺ( كبّرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعتْ تكبيري: خيّبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادمًا ما زِدْت، فقلت لها: أي عمة هو  والله، أخو موسى بن عمران وعلى دينه بُعث بما بُعث به: فقالت : أي ابن أخي، أهو النّبيّ الذي كنّا نخبَرُ أنّه يبعث نفس السّاعة؟([27])، فقلت لها: نعم، فقالت: فذلك إذًا فقال: ثم خرجت إلى الرّسول (ﷺ( فأسلمت، ثمّ رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا، ثمّ قال:  وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله (ﷺ( فقلت له: يا رسول الله، إنّ يهود قومُ بُهت – البهت: الباطل–  وإنّي أحبّ أن  تدخلني في بعض بيوتك وتغيّبني عنهم، ثمّ تسألهم عنّي حتّى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي؛ فإنّهم إن علموا به بهتوني وعابوني، فأدخلني رسول الله (ﷺ( في بعض بيوته ودخلوا عليه وكلّموه وسألوه، ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا: سيّدنا وابن سيّدنا وحبْرنا وعالمنا، فلمّا فرغوا في قولهم خرجتُ عليهم فقلتُ لهم: يا معشر يهود، اتّقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنّكم لتعلمون أنّه لرسول الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التّوراة باسمه وصفته، فإنّي أشهد أنّه رسول الله (ﷺ( وأؤمن به وأصدّقه وأعرّفه، فقالوا: كذبت، ثمّ وقعوا بي، فقلت لرسول الله (ﷺ(: ألم اخبرك يا رسول الله أنّهم قوم بُهت أهل غدر وكذب وفجور، فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمّتي خالدة بنت الحارث فحسُن إسلامها([28]).

أمّا عن حديث مخيريق، كان حبرًا عالمًا، وكان رجلا غنيًّا كثير الأموال من النّخل، وكان يعرف رسول  الله (ﷺ( بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلفُ دينه، فلم يزل على ذلك حتّى إذا كان يوم أحد، وكان يوم السّبت، قال: يا معشر يهود والله إنّكم لتعلمون أنّ نصر محمّد عليكم لحقّ، قالوا: إنّ اليوم يوم السّبت، قال: لا سبت لكم ثمّ أخذ سلاحه، فخرج حتّى أتى رسول الله (ﷺ( بأُحد، وعَهِد إلى مَن وراءه من قوله: إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمّد (ﷺ( يصنع منها ما أراده الله، فلما اقتتل النّاس قاتل حتى قُتل فكان رسول الله (ﷺ( – فيما بلغني – يقول: مخيريق خير يهود، وقبض رسول الله (ﷺ( أمواله، فعامَّة صدقات رسول الله بالمدينة منها([29]).

ودعا رسول الله (ﷺ( اليهود من أهل الكتاب إلى الإسلام ورغّبهم فيه، وحذّرهم من عذاب الله ونقمته، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتّبع يا محمّد ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم، وخيرًا، فقال، فانزل الله عزّ وجلّ في ذلك، من قولهما: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)([30]). وجاء نفر من أحبار يهود إلى رسول الله (ﷺ( وقالوا: يا محمّد، أخبرنا عن أربع نسألك  عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتُّبعناك، وصدّقناك، وآمنّا بك، قال رسول الله (ﷺ(:

  • عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقوني؟ قالوا :
  • نعم، قال رسول الله (ﷺ(: فاسألوا عمّا بدا لكم، قالوا :
  • فأخبرنا كيف يشبه الولد أمّه، وإنّما النّطفة من الرّجل؟ فقال لهم رسول الله (ﷺ(:
  • أنشدكم بالله، وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنّ نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيّتهما عَلَتْ صاحبتها كان لها الشّبه. قالوا: اللّهم نعم… وقالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ فقال:
  • أنشدكم بالله، وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنّ نوم الذي تزعمون أنّي لستُ به تنام عينه وقلبه يقظان؟ فقالوا: اللهم نعم، قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان، قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال رسول الله (ﷺ(:
  • أنشدكم بالله، وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنّه كان أحبَّ الطّعام والشّراب إليه ألبان الإبل ولحومهما، وأنّه اشتكى شكوى، فعافاه الله منها، فحرَّم على نفسه أحبَّ الطّعام والشّراب إليه شكرًا لله، فحرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللّهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الرّوح؟ قال:
  • أنشدكم بالله، وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون جبريل، وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم، ولكنّه يا محمّد لنا عدو، وهو ملك، إنّما يأتي بالشّدة، ويسفك الدّماء، ولولا ذلك لأتَّبعناك؟ قال: فأنزل الله عزّ وجل فيهم: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) إلي قوله تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُواْ عَهۡدٗا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ* وَلَمَّا جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٞ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِيقٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ * وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ) أي السّحر (وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ )([31]). إنكار اليهود نبوّة داود عليه السّلام، وردّ الله عليهم([32]).

ولا ينبغي أن ننسى أنّ نجاح الرّسول، والوعي الذي كوّنته دعوته ووجود العصبيّة القبليّة أمور مسؤولة كثيرًا عن ظهور الأنبياء الكذّابين، مثل طليحة في بني أسد، والأسود العنسي – الذي خرج في حياة الرّسول – في اليمن، وذي التّاج لقيط بن مالك الأزدي في عمان، وربّما كان للنّاحية القبليّة الأثر الأوّل في ظهورهم؛ فلم تكن حروب الرّدّة إذاّ لإرجاع أناس أسلموا، ثمّ تركوا الإسلام، بل كانت حروبًا سياسيّة دينيّة لإخضاع مَن لم يخضع، وضمّه إلى حظيرة الإسلام.

ولا ننسى امتزاج الدّين بالسّياسة في الدّعوة الإسلاميّة منذ بدئها. إنّها حركة توحيد العرب، وقد أتمّ أبو بكر توحيد الجزيرة، وعلى هذا يمكننا عدّ عمله متمّمًا لعمل الرّسول (ﷺ( وقمّة الوعي السّياسيّ الدّاخليّ، أو الميل نحو التّكتل الذي ظهر بشكل ضعيف مرتجف قبيل الإسلام.

وكان أوّل أثر لحروب الردّة، قبل توحيد الجزيرة، توحيد صفوف المدينة، بعد الخلافات والمنافسات التي خلّفتها المعركة الانتخابية الأولى، وتلا ذلك توحيد الجزيرة.

 

ثامنًا:أسباب صعود الإسلام والتوسع خارج الجزيرة

انتصر التّيّار الإسلاميّ بعد وفاة الرّسول (ﷺ( وتدفّق التّيّار المنتصر، وسار خطوة جديدة بالتّوسّع خارج الجزيرة؛ وهذا التّوسّع يعنى نشر سيادة الإسلام، ونشر العقيدة. وقد حمل التّيّار الإسلاميّ هذه المرّة العرب تحت لوائه ودفع بهم إلى الخارج كقوّة موحّدة. وكان أهل المدن أبطال الإسلام في الرّدّة وهم الآن منظّمو الفتوحات وقادتها. وعلينا أن نتذكّر الفرق بينهم وبين القبائل في الدّوافع، وفي درجة الوعي الإسلاميّ.

لقد تدفّق التّيّار الإسلامي العربيّ، واتّجه إلى تكوين إمبراطورية عربيّة إسلاميّة، وكانت ظروف العرب واتّجاهات التّيار الإسلاميّ مسؤولة عن ذلك لأسباب عدّة:

  1. إنّ الإسلام فرض الجهاد على المسلمين.
  2. أثارت حروب الرّدّة الرّوح العسكريّة في الجزيرة، ولا ينتظر أعمالها، ومن الضّروريّ توجيه القوّات المقاتلة إلى مجال جديد، وأورثت حروب الرّدّة وإخضاع الجزيرة بالقوّة بعض الأحقاد على المدينة، وبقي أثر العصبية القبليّة، وكان لا بدّ من معالجته.
  3. إنّ الغزو جانب أساسيّ من الحياة البدويةّ، وما دام الإسلام أوقفه في الجزيرة، فلا بدّ من توجيه جديد، وذلك بتحويل الإمكانيّات القبليّة، والرّغبات القبليّة وجهة التّوسّع في قضيّة مشتركة، وتبدو أهمّيّة هذا التّوجيه إذا تذكّرنا أنّ موارد الجزيرة تقلّ عن حاجة سكّانها، ويلزم إيجاد مورد عيش جديد، وتحويل الغزو إلى جهاد خارج الجزيرة.

كنا قومًا في شقاء وضلالة فبعث الله فينا نبيًّا فهدانا الله ورزقنا على يديه فكان فيما رزقنا حبّة زعموا أنّها تنبت في هذه الأرض، فلمّا أكلنا منها وأطعمنا أهلينا قالوا لا صبر لنا حتّى تنزلوا هذه البلاد، فنأكل هذه الحبّة([33]).

إذًا، فالصّراع بين البادية والحضارة أو زحف البادية على الحضارة قديم، والموجة العربيّة بدأت قبل الفتح بما يزيد على قرنين، ولكنّها كانت ضعيفة محدودة ولا هدف لها. فالإسلام وحّد العرب، وأعطاهم رسالة عالميّة، وزَحَفَ بهم إلى البلاد المجاورة (الهلال الخصب وحده)، ولا يتمثّل التّيّار الإسلاميّ في نشر الدّين الإسلاميّ بالسّيف، بل يتمثّل في نشر سيادة الإسلام، وتخيير النّاس بين قبول الدّين ودفع الجزية والخضوع.

فالاتّجاه الإسلاميّ يعود إلى انتصار العرب بالدّرجة الأولى، فالقوّة الدّافعة في الدّين الجديد وفتوّة الشّعب العربيّ، وتحفّزه، واجتماع كلمته كانت سرّ تفوّقه أمام الضّعف الدّاخلي في الدّولتين البيزنطيّة والسّاسانيّة، مع انقسام دينيّ، وتباين اجتماعيّ، وإرهاق في الضّرائب، وإنهاك نتيجة الحروب الطّوال، فذلك عامل ساعد على سرعة تغّلب العرب، ولكن تأثيره سلبيّ في حين إنّ النّاحية الإيجابيّة تتعلّق بالعرب أنفسهم الذين تسلّحوا بقوّة الإيمان بالله.

وموجة التّوسّع العربيّ تمثّل قوّة التّيّار الإسلاميّ، وتحويله التّيّار القبليّ إلى تيّار عربيّ عامّ، واتّحاد التّيّارين في وجهة إسلاميّة بالتّوسع لصالح الإسلام، ومجد حملة لوائه العرب، وقد بقي الإسلام والعرب متلازمين كوجهيّ النّقد مدّة طويلة أمام الشّعوب غير العربيّة.

وبتوسّع العرب خارج الجزيرة تعرّض الشّعب العربيّ لأوضاع جديدة ولاتّجاهات خطرة على كيانه، أخطرها امتزج فيه ردّ فعل الدّيانات الفارسيّة التي غمرها الإسلام، وردَّ فعل القوميّة الفارسيّة التي محا دولتها، وكان هذا من أخطر التّيّارات في التّاريخ الإسلاميّ، وأبعدها أثرًا.

يضاف إلى ذلك تيّار اقتصادي تدلَّ عن تسرُّب الأموال إلى العرب وتأثير ذلك في وضعهم المعاشيّ، وفي علاقاتهم السّياسيّة بعد ذلك([34]).

والذي يبعث على الدّهشة والاشمئزاز الممزوجين بالحنق، أنّ الصّهاينة اليهود الذين كانوا ولا يزالون يرتكبون أبشع الجرائم في حقّ الشّعوب التي استضافتهم وأكرمتهم ومنحتهم حقوقهم والامتيازات مثل المواطنين؛ وهنا، ينتصب سؤال ما بين الأرض والسّماء: هل في جعبتك قول يناسب أفعالهم أكثر من قول: (اتّق شرّ من أحسنت إليه) وهم الذين قد صنعوا الإرهاب، والجرائم، والغدر اليهوديّ الذي جسدّوه في مجازر حقدهم وإلحاق الأذى بالشّعوب، وذاكَ أنَّ جرائمهم الشّنيعة لا تحصى ولا تُعّد.

وبذلك كلِّه، يتبيّن لنا أنّ الإسلام استطاع بتعاليمه السَّمحة، وقوّته الرّوحانيّة أن يقلِّم مخالب العصبيّة القبليّة التي كانت مُستشْريةً في صحراء شبة الجزيرة ومجاليها، وأن يجعلها تندحر، وينخفت فحيح أوّارها… وبالتّالي استطاع أن يوظّف طاقتها في الفتوحات والانتصارات المتتالية المذهلة، وأن يبني دولته التي أشرقت بأنوارها السّاطعة على بلدان وأصقاع شاسعة من الكرة الأرضيّة… فهل سيعيد الزّمانُ دورته الطّبيعيّة، وتشرق شمس الإيمان والعدالة من جديد؟

 

الخاتمة

من خلال التّحليل العميق، يظهر أنّ الإسلام يمكن أن يعمل كعامل توحيد يعزّز من الرّوابط الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويقدّم بديلّا للعصبيّات القبليّة. ومع ذلك، يتطلّب تحقيق هذا الهدف فهمًا عميقًا للسّياقات المتغيّرة التي تؤثر في المجتمعات الإسلاميّة. إنّ التّفاعل بين الدّين والهويّة الاجتماعيّة هو مجال غنيّ يتطلّب المزيد من البحث والنّقاش.

 

المصادر و المراجع

  • القرآن الكريم.
  1. الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد الله، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، تحقيق : رشدي الصالح ملحس، دار النفائس للنشر، بيروت، لا ط.
  2. ابن الأثير، 1979م، الكامل في التاريخ، تحقيق : عمر عبدالسلام تدمري، دار صادر، بيروت، لبنان، ط 1، ج 1.
  3. ابن عبد ربه، أبوعمر، شهاب الدين أحمد بن محمد،( 1404هـ )، العقد الفريد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1.
  4. ابن هشام، عبدالملك، ( 1955م )، السيرة النبوية، تحقيق : مصطفي السقا، وإبراهيم الإبياري، وعبدالحفيظ الشلبي، شركة مصطفي البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 2.
  5. أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج ، طبعة بولاق 1302هـ القاهرة، المطبعة السلفية.
  6. البيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسي، ( 1405هـ )، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق: د.عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية،بيروت،ط١.
  7. الطبري، أبو جعفر،محمد بن جرير ( 1387هـ )، تاريخ الطبري – تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ذخائر العرب،  القاهرة، دار المعارف 1962،ج 3.
  8. الهيتمي، ابن حجر، الصواعق المحرقة، شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة،1385هـ / 1965 م.
  9. حميد الله، محمد، مجموعة الوثائق السياسية، العهد النبوي و الخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الخامسة،١٩٨٥م.
  10. زكريا، محمد بكار، السيرة النبوية، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان 1417هـ / 1997م.
  11. شلبي، أحمد، التاريخ الإسلامي و الحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٥٩م، ج1.
  12. علي، جواد، ( 2001م )، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار السّاقي، بيروت، ط 4.

المراجع الأجنبية

  1. Claude Cahen :histoire des arabes et des peuples musulmans. 1991.
  2. La Beaume (Jules):Mahomet, R-F, N:13, 1869.
  3. M Achena : Henri Massé(1886-1969)cahiers de civilization medieval.
  4. Febvre Lucien: Henri Massé. l’islam.annales.15. 1932.
  5. Rodinson. :R Blachère.le coran.Revue de l’histoire des réligions.1959.1.

 

([1])  جامعة الجنان/ مكتب تدقيق اللّغة                                    Email :jouhayna.masri1234@gmail.co

([2])  راجع: عبد العزيز الدوري، مقدمة في تاريخ الإسلام، الأعمال الكاملة، ص 45 – 47.

([3])  ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 333. وانظر: العقد الفريد، 2/ 31 وما بعدها. وانظر: أحمد شلبي، التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، 1/ 227.

([4])  اشتهرت هذه الغزوة باسم عزوة تبوك، نسبة إلى عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التّسمية جاء في صحيح مسلم، وهي الغزوة التي خرج الرّسول محمّد (ﷺ( لها في رجب من عام 9ه بعد العودة من حصار الطّائف بنحو ستّة أشهر، وتُعدّ غزوة تبوك هي آخر الغزوات التي خاضها الرّسول (ﷺ(. بدأت تداعيات تلك الغزوة عندما قرّر الرّومان إنهاء القوّة الإسلاميّة التي أخذت تهدّد الكيان الرّومانيّ المسيطر على المنطقة؛ فخرجت جيوش الرّوم العرمرمية بقوي رومانيّة وعربيّة تقدّر بأربعين ألف مقاتل قابلها ثلاثون ألفًا من الجيش الإسلامي. انتهت المعركة بلا صدام أو قتال؛ لأنّ الجيش الرّوماني تشتّت وتبدّد في البلاد خوفًا من المواجهة؛ فرسم تغيّرات عسكريّة في المنطقة، جعلت حلفاء الرّوم يتخلّون عنها ويحالفون العرب كقوّة أولى في المنطقة؛ لذلك حقّقت هذه الغزوة الغرض المرجوّ منها على الرّغم من عدم الاشتباك الحربيّ مع الرّوم الذين آثروا الفرار شمالًا.

([5])  انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1/ 680 ٦٨– 681. وانظر: ابن هشام السّيرة النّبويّة، 2/ 204.

([6])  راجع مجلة دراسات تاريخية، العدد الثاني عشر، شعبان – أيّار 1404هـ =1982م، ص 10 – 12.

([7])  ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 232 – 235.

([8])  انظر تفاصيل هذه القضية في: ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 234 – 235.

([9])  ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 585.

([10])  ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 234 – 235.

([11])  الطبري، تاريخ الطبري:  تاريخ الملوك و الرسل، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ذخائر العرب، القاهرة، دار المعارف 1962، 2/ 246.

([12])  المصدر السابق 3/ 257.

([13])  انظر: محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، العهد النبوي و الخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت،الطبعة الخامسة،١٩٨٥م، ص٣٠٥.

([14])  الطبري، المصدر نفسه 3/ 260.

([15])  الجمعة: 3

([16])  محمد بكار زكريا، السيرة النبوية، دار البشائر الإسلامية، بيروت، لبنان 1417هـ / 1997م، ص٩٤-٩٥.

([17]) آل عمران: 75

([18])  آل عمران: 100 و101

([19])  ابن بكار، السيرة النبوية، ص 95 – 96

([20])  البقرة: 61

([21])  انظر: جان صليبة توكمه جي، جريدة الديار اللبنانية، 24 كانون الثاني ١٩٩٩م، ص 1/ 2

([22])  المصدر السابق نفسه.

([23])  ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة، شركة الطباعة الفنية المتحدة، القاهرة،1385هـ / 1965 م.

(1)جان صليبا توكمه جي، جريدة الديار اللبنانية، مرجع سابق، ص 1/ 2.

([25])ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 196.

([26]) المصدر نفسه 163 – 164.

([27])  قال السهيلي: هذا الكلام في معنى قوله عليه السّلام إنّي لأجد نفس السّاعة بين كتفي وفي معنى قوله: نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومن كان بين يدي طالبه فنفس الطّالب بين كتفيه وكأنّ النّفس في هذا الحديث عبارة عن الفتن المؤذنة بقيام السّاعة، وكأن بدؤها حين ولي أمّته ظهر خارجًا من بين ظهرانيهم إلى الله تعالى، ألا تراه يقول في حديث آخر: (أنا أمان لأمتي فإذا ذهبت أتي أمتي ما يوعدون، لكانت الفتنة ثم الهرج المتصل بيوم القيامة). ونحو من هذا قوله عليه السلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين: يعني السبابة والوسطي). الحاشية رقم 3، ص 163 – 164.

([28])  ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 163 – 164.

([29])  المصدر السابق، 2/ 164 –  165.

([30])  سورة البقرة: 170. السيرة النبوية، 2/ 200 – 201.

 ([31])البقرة: 102.

([32])  ابن هشام، السيرة النبوية، 2/ 191 – 192.

([33])  أبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج، المطبعة السلفية، القاهرة، 1936، ص 16 و 53. (اعتمد في هذه الطبعة على نسخة مخطوطة من الخزانة التيمورية رقم (674) مع معارضتها بطبعة بولاق 1302ه).

([34])  ويذكر الطبري أن بعد معركة ذات السلاسل، قام خالد خطيبًا في الناس، يرغبهم في بلاد العجم، ويزهدهم في بلاد العرب، وقال : “ألا ترون إلى الطهام كرفع التراب ؟ وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله، والدعاء إلى الله  عزوجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي نقارع على هذا الرديف حتي نكون أولى به، وتولي الجوع و الإقلاع من تولاه أثاقل عما أنتم عليه”. (انظر: تاريخ الطبري، 3/ 355).

عدد الزوار:11

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى