الافتتاحية

مَن مِنّا يرثي مَن؟

مَن مِنّا يرثي مَن؟

أُلْتِلُّنْ بلدْنا عَم يِخْلأْ جْديد

عمر شبلي

من كان يصدِّقُ أنّ وطنًا تُمزِّقه الحروب، وتطحنه المذاهب لتعجن منه خبزًا سامًّا، وأنّ ساسةً لا يختلفون أبدًا عن التّجّار والمقاولين يلقون به في جحيم دانتي، وأسواق النّخاسة، ثم تراه فجأةً يلتئم ويتحرر، ويعجنُ خبزًا فيه روح الحياة، تعجنه بوحدانيةٍ خالدةٍ ثلاثيةُ الصّوت واللّحن والكلمة في عبقريّات من صنع لبنان، في صوت فيروز الذي لا يمكن أن يغادر الأرواح، بل يعطيها مدَدًا روحيًّا كلّما نضبتْ أرواحنا وجفَتْ غيوم العطاء، وفي ألحان الرّحابنة التي تُحِسُّها وتعرف خالقيها قبل أن يُلقى عليك اسم عاصي ومنصور وزياد وباقي الرّحابنة النّادري التّكرار، ثمّ في الكلمة التي تذوب في موسيقى الرّحابنة حتى تكاد ألّا تميّز بين الكلمة واللّحن، وقتها تصبح الكلمة لحنًا واللّحن كلمة حيث تصبح الموسيقى والألحان فضلًا في المنطق “لم يقدر اللّسان على استخراجه فاستخرجته الطّبيعةُ بالألحان” كما يقول صاحب العقد الفريد.

هذه العبقرية أبعد من دُنُوِّ الموت منها، إنّها سَفرٌ مستمر بين الأرض والسّماء بإنسانٍ لا يشبع من الخلود يستوحي خلوده من مسيح سافر من الأرض للسّماء وعاد إليها، ولا ندري حتى اليوم هل صليبه لا يزال نازفًا على شجرةِ زيتونٍ فلسطينيّة، وحيث نرى من صُلِبَ عليه ماشيًا في “شوارع القدس العتيقة”، في زهرة المدائن، أم صار الصّليب عضوًا في جسد المسيح يذكرنا بأنّ النّزيف ضروريٌّ لدُنُوِّ الأرض من السّماء؟

لبنان يصنعه الحبّ والغناء وفيروز منجبةُ زياد الذي عبث بكل الأشياء ليعيد ترتيبها بتمردٍ يعرف كيف تكون الحرية ابنة التمرّد الذي يلعب بالكون ليعطي حركته معنى الجمال الذي لا يتكرّر مرتين إلّا وأضاف شيئًا من تمرّده الخالق. إنّ فرادة الجمال تلغي تقليده بل وتُعجِز تقليدَه في أن يكون.

أنت يا زياد ألغيت بتمرّدكَ تكرارَ أبيك وأعمامكَ المبدعين لتكون أنت لا هم، وكم نخشى بموتك أن يهزل التّمرّد ويصبح شكلًا ينافي الإبداع، وإنْ تزيَّا بلباسه، وقتها سأقولُ لك يا زياد: من منّا يرثي من؟!

أن تستطيع فيروز مع أسرتها الإبداعيّة إيجاد وطنٍ في زمنِ أفولِه فهذا هو الإبداع، لأنّ الخلق هو أرقى مهمّات الإبداع. إنّ وطن الإبداع الفيروزيّ الرّحبانيّ كان أبعد من جغرافيّته، حيث استعمر بلاد العرب كلّها استعمارًا لذيذًا شهيّا محَبّبًا تتمنّاه كلّ البلاد الحرّة وأتمنى ألّا يبرؤوا من هذا النّوع من الاستعمار المحبَّب، إنّك لا تشعر بلذّة الاستعمار إلّا وأنت ترى فيروز مسيطرة على كل محطّات الوطن العربيّ حتى الحكوميّة منها. فتصوّر قدرة الإبداع على الاختراق، وقدرة العبقريّة، وهي تخترق الفواصل والحدود. جغرافيّة لبنان الفيروزيّة الرّحبانيّة جعلت رئيس جمهورية الثّقافة الفرنسيّة الرّئيس ماكرون يأتي إلى لبنان ليتناول طعامًا ربّانيًا على سفرة فيروز التي لا تُحَدُّ، ولا ترى سفرة أخرى تضاهيها لمعانًا في زمن ظلمات الأرواح.

ماذا يعني هذا الحزن الغامر في لبنان.

أن يحزنَ لبنانُ كلّه، وبلا استثناء، لفقد عبقريّ مولود من عباقرة وأنجبته أمّ عبقريّة هذا يعني أنّ الموت كان في كلِّ بيت، فما الذي حدث؟ لكن هل تموت العبقرية!!! كان كلُّ واحدٍ منّا يروي شيئًا عن فيروز الذّكرى، وهي جالسة أمام نعش يحمل جثة عبقريّ يحاول أن يخرج من الآلة الحدباء. وهذا يثبت أنّ العدميةَ لا تجرؤ أن تدنو من العبقريّة: “أولتِلّن بلدنا عم يخلق جديد”

هذا الحزن إذًا، كان حزنًا لبنانيًّا، روحيًّا مارسه لبنان مع زياد ومع فيروز وهي حاضرة رافضة الموت الذي كان يُقدّمُ لها في أواني وأرواح النّاس جميعًا. كم كان عظيمًا حضورُ الحياة في الموت، وهي تحيي ذاكرة وطن والموت ممدّد أمامها في زيادها غير النّاقص روحًا أبدًا، كان حضورها يلغي الموت لأنّها أيقظت فينًا ما كان ميتًا تمامًا. لقد أحيت لبنان الذي كان ميتًا فينا، فاعجب لموت يُحضِرُ الحياة في كل تفاصيل الوطن الذي كان يشبه فيروز، كان صدى أغنية “سألوني النّاس عنك يا حبيبي” حاضرًا بملحِنه زياد في كل من رأى حزن فيروز، كان الصّدى الرّحباني يلغي سنوات ملأى بالغربة وموت الوطن. فأعجب لصوتٍ كان يُرى بمستوى سماعه. كانت الأمّ والابن معها في حضورٍ أزليٍّ يجعلنا نتساءل “أماتَ الموت”؟ كان صوتًا يوقظ لبنانَ من رُفاته. كان صوتًا يوقظ فينا احتمال قدرتنا على إحياء الوطن.

مات زياد الرّحباني ولم يمت، إنّ عمر العبقرية أبعد من الزّمن وعصيٌّ على الزّوال. استرح، يا زياد في قلوبنا جميعًا، ومع ذلك أسألك: مَن مِنّا يرثي مَن؟

عدد الزوار:371

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى