ليندا نصار… إيقاعات متمرّدة في عالم الحب والشعر – عمر شبلي

10259919_10152309377580589_7801634054787205890_nليندا نصار، فتاة تجهش للحب فيجهش بين يديها الشعر، إنها أسيرة، وتحاول أن تتمرد على قيدها وسجّانها، سجّانها الذي هو عندها أثيرٌ كالحرية نفسها، إن في الحبّ عبوديةً لا ترقى لها الحرية، لأن الحب وحدَه هو مبررُ وجودِ وتماسكِ هذا الكون، وهو وحده الجدير بالحياة، وهو وحده المتمرِّد على الموت لاتصاله بالله: كلاهما للخلود، الحبُّ واللهُ كما يقول بدوي الجبل، فكلاهما، الله والحب، تنسكب فيه سرائرنا بفيض وحلول دون أن نراه، ولكننا نعيش فيه.
وفي هذه المحنة اللذيذة التي تفوق الانتصارَ بانكساراتها لا تملك ليندا نصار سوى تلك الإيقاعات الداخلية التي تتمرد، كما تتمرد الموجة المزدحمة بقوة البحر على خِضَمِّها، وقتها يكون البحر في الخارج، وفي الداخل أيضاً، وتكون الموجة لغة البحريْن، مَرَج البحرين يلتقيان في ليندا نصار، ولكنها تستسلم عند صخرة القضاء البكماء الرابضة على الساحل غير آبهة بازدحام الموج ونثاره المسكون بهزيمتها أمام قدرها، تقول: عصيٌّ، كما هرمٌ مستبدٌّ/ بأحجاره والخلود/ وأما أنا/ فأغرق فيك/ رجوْتُك أسكنْ دمي ووجودي/ وفي قلبك المستبدّ الذي هو زنزانتي/ دروسٌ بقسوتها مستبدَّة.
هذه هي الشاعرة الواعدة ليندا نقولا نصار، إنها تحاول التمرد، ولكن قوتها العليا تكون باستسلامها اللذيذ لقدَرها الحامل كلَّ أسرار البحر، وأسرار هزائمها، غير آبهة بأشلائها المتناثرة كأمتعة قلبها على زبد الموجة اللاحقة حاملة عناد أوليس ودموع بينلوبا المنتظرة عند شاطئ لا يأتي: وللموج طبعٌ يعانيه صدرُ السفينة/ ويبقى يضجُّ إذا ما انكسرْ/ ويا حيرة الموج حين يجنُّ/ وحين يُصِرّ.

معجزة الحب
وإذا كان الحرمان وقود نار العشق فهو تعبير عن الفقدان، والفقدان في النهاية هو نوع من الموت: ففيك اشتعالي/وفيك انطفائي، وإذا كان الانطفاء هنا هو تحول الجمرة إلى رماد، فلا بد أن يظل الموقد مشتعلاً، وهنا تكمن معجزة الحب، صانعِ كل شيء، فهل تبقى أسرار الجمر في جثام الرماد؟ من يدري! أولم يقلْ بودلير: إنها لا تدري علام يبكي الموتى، فإذا كان الموت نتيجة حتمية للجسد، فإن الروح تحدِّق من علاها إلى جسد قد فارقته. وبهذا يغدو الموت مرحلة من مراحل الحياة، ولا يكون عدماً، فالموت لو كان عدما لانقطعت صِلاتنا بكل شيء، وفقدت الحياة مبرر وجودها. وإذا كان الرماد جنازة الجمرة فإن البقاء في الجمرة ولذعها أفضل من الموت إذا كان نهاية، وهذا ما تحسُّه ليندا بفطرتها الهاجمة على الحب والحياة، تقول: فالنشوة قبل القطف ألذُّ، وإذا ماتت آمالُ القلب/ فالعمر مُحال.
كلمات ليندا وعيناها دائماً تبحثان عن الشاطئ، وإذا كان الوصول صعباً، فاللهفة أشد عناداً والموجة ستصل ولو متلاشية، إذن لا بد من الوصول، ولكن هل الوصول نهاية؟ ربما، ولذا تغرق ليندا في خضمها مكسوة بقوة اندفاع الموجة، وليكن من بعدها ما يكون، لأن التوق هو رؤية الله في النهاية إذا فلتستمر الرحلة إلى الحبيب الأقصى ولو بعيداً، تقول: أتوق رغم غضبي إليك/ كما يتوق العابد الدرويش/ لرؤية الله وقد تبخّر المكان هذا التوق يؤكد الحرق اللذيذ لأنه تصوُّر الوصول، ومن كانت بدايته محرقة فنهايته مشرقة، لا بد من الرحلة في عيني من نحب، وكذا تفعل ليندا رغم إدراكها ما يعني اللذع والحرق: وأنا أبحث في عينيك عن عمري المديد/إنما أهرب خوفاً من لظاك/ أيها الساكن كالنار بصدري إنه الهروب إلى العودة، وكلما استيقظ في عزلة ليندا ما هو كامن في أعماقها تصرخ بتلذذ المشتبك في هيكل وثني مع رؤيته ورؤاه.
مفاتيح الروح
إن ليندا نصار تدعي بشيء من التحدي ملكية كلمة السر، ولكن عبثاً ، فتعود لتسلم مفاتيح روحها لمن زعمت أنها تملك مفاتيح روحه:مفاتيحُ روحي معك. وتعود ثانية للغوص في محاولاتها للاكتشاف المستغرق عمراً كاملاً، والذي هو بحاجة لملاّح مثل أورشنابي الذي عبر بغلغامش مياه الموت العميقة ليصل إلى جده أوتونباشتم، فهل تستمر ليندا نصار بتكسير مجاذيفها في رحلة الحب المجنونة، لقد قبلت هذا وراحت تنزف شعراً معبراً عن مأساة أنثى حولها الحبُّ شعراً، ولا راحة لها إلا في بلاد الحب، وأعني النوم أو الموت على صدر الحبيب: وفي حضنك الدافئ المستبد/عرفت الوسادة/: تقول ليندا أيضاً: يبعث الأشباحَ في صدري غموضُكْ/ أيُّ حبٍّ في زمان العتم ينمو؟!. إن هذا السؤال المقهور، يهب ليندا لغة حدْسية مذهلة ومضيئة، وهكذا يصبح الحزن مضيئاً على شعاع ما تذرفه العيون من دموع. ولكن الحب ينمو في الظلام لشدة حضوره، وما الغموض الذي يملأ صدر ليندا بالأشباح، إلاّ قربى وشيجة من ظلمات بودلير الذي يرى سعادته كلما لفّ الليل الطبيعة بأسراره المتسربة منه إلى الليل، يقول بودلير في أزهار الشر : لَكَمْ كنتَ تُسعدني أيها الليل لولا نجومك التي يتكلم ضياؤها لغة معروفة.
إن النقيضين الحزن وضوء الدموع هنا هما منتجا شعر ليندا نصار. فهل نعرف أن التناقض هو سبب استمرار وجود هذا الكون بكل تفاصيله. وتعود ليندا أمام الحب مرغمة للاعتراف بروعة الغموض وقساوة الغياب ولذته في آن، تقول :أشهى ما في عينيك/ غربة عينيك/ هذه الشهوة القاسية، ولأنها تودّ الامتلاك تقسو كثيراً على قلب فتاة لم تزل في الصفحة الأولى من كتاب الهوى على حد تعبير نزار قباني، تقول ليندا : صهيلُ ظنونك في خاطري/ ظنونك تصهل مثل الخيول، في هذا عذاب منهمر من قلب تعرف إلى الحب فأصابه بسهام جارحة .
وقد تتحطم المرايا، ولكن ضوء الدمع يصبح وفاء خالصاً، تقول ليندا: وطبعت وفائي في مرآتي/ فلتنكسر المرآة/ وليبقَ وفائي/، ولكن الوفاء الناتج عن الحب لا يتمرد على الحبيب ، إنه يحاول تقويمه، ويُحسِنُ ثِقافَه، بالشعر طبعاً. وأحياناً يحمل لغة قاسية، وتهديداً بالنأي، إن نهم العاطفة يجيش ويصطخب في صدر ليندا إلى درجة تحريض الحبيب، ولكنه تحريض غير مبتذل، لأنه أرفع من نزوة عابرة وانفلات جسدي عابر، والحب لا يصبح مبتذلاً أبداً، لأن الموانئ المفتوحة لاستقبال سفن الحب تظل واعية معاناة الرحلة، وذاكرة تلك المناديل الوامقة المبللة بالدموع، والتي تكاد تصبح أشرعة للسفن التي تعاندها الرياح، تمرُّدُ ليندا هو اقتراب أكثر من الاستسلام، تقول ليندا: مللتُ موانئك الساكنةْ/ غرستك في كل شيء/ وما كنت شيئاً/تمرَّدْ/ أنا في النضال معكْ/ سأبقى معكْ/، تفاتحنا ليندا بالملل من الموانئ الساكنة، وهذا حقها، ولكنها تخشى مغادرة هذه الموانئ، ولو ساكنة، فتجعل رياحها تهب على صاحب الميناء، وهو صاحب قلبها، تريده عاصفاً متمرداً، ورائعٌ حين يتحول العاشق إلى عاصفة .
عوالم بودلير القصية
في شعر ليندا نصار ما يأخذنا إلى عوالم بودلير القصية، فقد حاول بودلير الوصول إلى حال الحلول الكلي في الأشياء التي عذبته وجذبته إليها بقدسية ممزوجة بلعنة بودليرية قدَرية، فلجأ إلى تحطيم الجُدُر والفواصل بين حواسِّه ليرى أكثر وأعمق، فانزياح الفواصل يجعل الحواس كلها حاسة واحدة، فهناك ألحانٌ خضراء كالمزمار، ويرى بودلير أكثر ما يرى في حاسة واحدة هي مجموعة الحواس، يقول بودلير: أيها التحول الروحاني/ يا تحوُّلَ حواسي كلها المنصهرة في حاسة واحدة/ إن نفَسَها يبدع الموسيقى/ مثلما يولِّد صوتُها العطر/….. وأحياناً تعثر على قارورة عطر قديمة تتذكر/ تنبثق منها عائدةً روحٌ حيّةٌ كلياً، وهناك في شعر ليندا ما ينحو هذا المنحى البودليري، فهل وصلت أزمة عشقها إلى مرحلة تفجير الجدران بين حواسها؟ سؤال سيجيب عليه مستقبلها الشعري.
تقول ليندا: ورجعتُ ألملمُ عطرك عن ثوبي/ وأضمُّ العطر وألثمهُ/ غجريٌّ صدرُكَ، أرحل فيه/ في هذا الشعر الجميل أثرٌ بودليري واضح، ولكن ذلك لا ينفي فرادة الصوت عند ليندا نصار، لأن كثافة أحاسيسها تقودها قوداً إلى رؤيا اختراقية تهدم الجدران والفواصل بين أحاسيسها.ولنقرأ هذا الشعر الجميل في قول ليندا: ونبيذ الأسرار لذيذ الطعم/ لكني أخشى أن يخطر في البال/ أخشى أن تكشفها الأنوار لأسرار العشق طعم النبيذ المعتق، والسر هنا يتذكر ويزدحم كقارورة عطر بودلير التي تتذكر.
عدد الزوار:2021

إضافة تعليق