أصولية علمانية غربية؟ – د . هالة ابو حمدان

قد يشكل الدين خطراً على التعددية السياسية من خلال فرض سلطة دينية يُنظر إلى شرعيتها على أنها سامية. لكنه بالتأكيد ليس الخطر الوحيد. فوجود عقل عقيدي غير ديني لا يراعي المعتقدات الأخرى لدى الناس قد يشكل خطراً أكبر على التعددية والحرية الفكرية، حتى لو تخفّى وراء شعارات وإعلانات ومواثيق للحقوق والحريات. والتاريخ المعاصر مملوء بإيديولوجيات إلحادية أو علمانية تحوّلت من الناحية الفعلية إلى مرجعيات «دينية» بنظامها الذي لا يُمسّ، وعقائدها التي لا تُناقش.
لقد تميّز كثير من المفكرين، من المدافعين عن أشكال العلمانية، بالتفكير العقيدي المنغلق، وتحوّلت عقائدهم إلى أديان تتحدّث عن حقائق غير متنازع عليها، وعن مساحات مقدّسة وطروحات تميّز بين أصحاب الحق والخارجين عليه، وإن بتعبيرات «حداثية». فبعض العقول تدّعي لنفسها مُثُل الفكر الليبرالي الحديث، لكنها تميل إلى فرض عقيدة قطعية لا تتلاءم مع الليبرالية المدّعاة.
إن كل محاولة لفرض فلسفة سياسية معينة، عن طريق تحويل التجارب التاريخية الخاصة إلى قيمة مطلقة، هي أقرب إلى ترسيخ شكل من أشكال «الحكم الديني»، حتى في النماذج الإلحادية. وحين يحوّل الفكر الليبرالي أيديولوجيته السياسية إلى نظرية فلسفية عالمية قطعية، يتحوّل إلى فكر أصولي شبه ديني.
وهذا ما يحصل عند التطرق لمفهوم الحداثة. فالحداثة تعني مواكبة المرء لمتطلبات ومفاهيم زمانه، لكن ما يُفرض على عقولنا هو أن الحضارة الغربية هي المنتِج الوحيد للحداثة، وأن هذه الحداثة الغربية عالمية، بمعنى أنها تلائم كل المجتمعات والثقافات. فالحداثة غربية بمفهومها وهي صالحة لكل زمان ومكان. هذا التعريف أيديولوجي وفوقي. ويؤدي لنفس ما تؤدي إليه النظرة الدينية الأصولية والمتعصبة، أي إلى ثنائية خطيرة، قوامها الغرب مقابل الآخرين، والحداثة مقابل التراث. وهو يعني أن أي محاولة من جانب دين أو حضارة غير غربية لإقامة مفاهيمها وحلولها الخاصة للتحديات المعاصرة، بناءً على مراجعها وأخلاقياتها الخاصة، يفسّر على أنه رفض للعالمية ومقاومة للحداثة. هذا الفكر، وإن كان ليبرالياً، هو أصولي، كونه يرى أن الغرب يملك الاحتكار الحصري للتعبير عن الكليّات، وخاصة لابتكار النموذج الصحيح الوحيد للحداثة.
إن المفاهيم المطلقة ليست حكراً على حضارة واحدة، بل لكل حضارة ومجتمع قيم ودين وثقافة، تنتجها التجارب والخلفيات التاريخية. ولا يمكن إقصاء فكر وثقافة وقيم الآخرين بذريعة الامتلاك الحصري للحق وللخير وللتطور. والحضارة الغربية مجرّد بناء، مثل الحضارات الأخرى: لا يمكن وصف أي منها بأنها كلية. فكل منها تحمل بذور تقدمها أو تأخرها، وتمرّ بفترات ازدهار أو انحطاط.
الفوقية التي اتّسم بها بعض المثقفين العلمانيين وحالة الرفض التي مارسها الإسلاميون تجاه الآخرين، كرّست العدائية بين الدين والعلمانية، وأوصلت الأمور إلى حالة الصراع التي نشهدها حالياً ووضعت الإسلام في مواجهة العالم. الغرب ينظر باستعلاء إلى الفكر الإسلامي ويحكم عليه بالتحجر والتخلف والهمجية. في المقابل، يردّ المسلمون إما بالرفض والانغلاق، والقول بامتلاك الحق دون الآخرين، أو بمحاولات إصلاح فاشلة لا تعدو كونها وسيلة لإسقاط مبادئ الإسلام ومواءمتها مع دنيا العلوم الغربية.
المطلوب التواضع، والتسليم بأنه لا حضارة أو دين يملك الكليّات أو المفهوم الأصح للحداثة. والمطلوب أيضاً، احترام الآخر وما يؤمن به، والنظر إليه بإيجابية من دون مقارنات تحكمها خلفيات التفوق، بل محاولة بناء كليّات مشتركة تنطلق من شجاعة النقد المستمر للذات.
عدد الزوار:1641

إضافة تعليق